قيل وكُتب الكثير عن البحرالأبيض المتوسط ودوره كمجال للتواصل بين حضارات حوضه وخاصة بين بلدان جنوبه وبلدان شماله، وما يعني في الواقع العالمين العربي ــ الإسلامي والأوروبي.
و«الإرث العربي ــ الإسلامي في أوروبا المتوسطية»، أي بلدان جنوب القارّة الأوروبية المتاخمة للبحر الأبيض المتوسط، هو موضوع كتاب جماعي أشرف على إنجازه وساهم فيه «رولان بيير غايرو»، المؤرّخ والمتخص بدراسة الآثار في حوض البحر المتوسط في العصور الوسطى والعصر الحديث، و«كاترين ريشارتي »، المتخصصة بعلم الآثار و«جان ميشيل بواسون» المتخصص بالأرياف في العصر الوسيط… وآخرون.
إن المساهمين في هذا العمل الجماعي يكرّسون اهتمامهم للبحث فيما تركته الحضارة العربية ـ الإسلامية في بلدان جنوب القارّة الأوروبية، باعتبارها منطقة التواصل المباشر بين العالمين. ويؤكّد الجميع على القول إن البحر الأبيض المتوسط يشكّل عالماً للتمازج بين الثقافات منذ آلاف السنين. وهذا بالتحديد ما يؤكّده “رولان بيير غايرو” في التمهيد الذي يفتتح فيه محتويات الكتاب وبأن “البحر الأبيض المتوسط هو بحر مشترك”.
والإشارة أنه إذا كان معروفاً للجميع الدور الذي لعبته الحضارة العربية ــ الإسلامية في نقل التراث العلمي والمعرفي القديم إلى الغرب الأوروبي في العصور الوسطى فإن هناك القليل من الدراسات التي ركّزت اهتمامها على ما تركه “الحضور العربي ــ الإسلامي” في بلدان جنوب القارّة الأوروبية، وفي مقدمتها إسبانيا وجنوب فرنسا وإيطاليا والبرتغال، حيث استمرّ ذلك الحضور بأشكال مختلفة لفترة طويلة من الزمن.
ومن الملاحظ أن المساهمين في هذا الكتاب يميّزون بين حالتين من الحضور العربي ــ الإسلامي في جنوب أوروبا. الحالة الأولى تخصّ “الأشكال العابرة، المؤقتة”، تحت مسميات متنوّعة رافقت أشكال الاجتياح الجزئي والموقّت. ذلك تحديدا خلال “قرون من الصراع على النفوذ في الحوض الغربي للبحرالأبيض المتوسط في الفترة الواقعة بين القرن العاشر والقرن الثالث عشر”.
تتم الإشارة في هذا السياق بأشكال مختلفة إلى أن البحرالأبيض المتوسط وحوضه كانا بصورة شبه دائمة مجالاً لصدامات عنيفة في أغلب الأحيان. لكنهما عرفا أيضا فترات من التبادل الحقيقي ومن “التفاعل والتمازج” الثقافيين على مدى قرون عديدة من الزمن.
وكانت عمليات القرصنة في جميع الاتجاهات شبه مستمرّة ما بين القرن التاسع والقرن السابع عشر. أما المحطات الأساسية التي ازدهرت فيها فتتمثّل في الجزر المقابلة لشواطئ أوروبا الجنوبية مثل سردينيا وصقلية. ومع ذلك يتم التأكيد أن “مخلفات أثرية عديدة” تدلّ على أنه كانت هناك مبادلات بين شاطئي المتوسط من نوع آخر.
والتأكيد مع ذلك بأشكال مختلفة على مدى صفحات الكتاب، أن “التقنيات” كانت على رأس ما قدّمه العرب والمسلمون لأوروبا المتوسطية، وخاصة في مجالات لها علاقة بالزراعة مثل قنوات الري وزراعة القطن والبناء اعتمادا على بعض أنواع التربة.
في المحصّلة، وبالاعتماد على مختلف مشارب العلوم الإنسانية وعلم الآثار والدراسة التاريخية، يقدّم المساهمون في هذا الكتاب كمّاً كبيراً من المعلومات التي تعرّف بشكل أفضل بمساهمة الحضارة العربية ــ الإسلامية في أوروبا عامة ، وأوروبا المتوسطية بشكل خاص. والتاكيد أنها مساهمة “قديمة وعميقة”.
—–
البيان