زاحف الليل (2014): فضح ممارسات “ميديا” الحوادث!




مهند النابلسي


خاص ( ثقافات )

لا أوافق رأي معظم النقاد بتشبيههم لأداء جاك جيلنجيهال بدور “دي نيرو” في فيلم سائق التاكسي الشهير، فالتمثيل هنا “استحواذي متحول” يصل لحدود التقمص الكامل للشخصية بحيث تكاد تقتنع بأنك تشاهد فيلماً وثائقياً مصوراً بكاميرا خفية مزروعة بزوايا الشوارع والأزقة وداخل المساكن… وربما تفوق على “دينيرو” بهذا السياق، وهو يستعرض هنا شخصية البطل “لويس بلوم” كمصور فيديو هاوٍ يتحول تدريجياً لشخص مهووس، وحتى لمجرم ومريض نفسي تصعب معالجته، وذلك بعد أن يتذوق طعم الشهرة وينعم بالمال الوفير، وبدا سلوكه باللقطات الأخيرة المؤثرة تجاه رفيقه الشاب الساذج المسكين “لا أخلاقياً، بل وإجرامياً”، حيث يعرضه “ربما” بقصد للقتل، ثم يصوره بدماء باردة، متشفياً به لأنه تجرأ وطلب نصيبه من الأجر، كما تمثل ذلك بوضوح بخطبته التوجيهية لموظفيه الجدد، التي تنطوي على روح مستبدة- انتهازية لا ترحم!
أما الشيء اللافت الثاني بهذا الشريط الجريء المميز، فهو تناوله الغريب لعلاقة مصور الحوادث بلوم مع صاحبة محطة أخبار محلية (الممثلة رينيه روسو)، فهي علاقة مهنية لا تخلو من الإعجاب المتبادل، ولكن بعكس المتوقع لم نشاهد لقطات “جنسية بينهما” كما يحدث عادة بمعظم الأفلام المشابهة (وهذا يسجل كنقطة إيجابية)… الفيلم الشيق الذي يتحدث عن حودث وجرائم الليل بلوس أنجلوس، حيث نرى في البداية بلوم (جاك جيلنجيهال) المقهور العاطل عن العمل، وهو يتحول تدريجياً “لصرصار ليلي” عندما يكتشف عالم صحافة “الحوادث والجرائم” المتلفزة بالصدفة، هؤلاء الذين يقتنصون الفرص ويصورون لحسابهم الخاص الحوادث والحرائق والجرائم، وينجح كمبتدئ بتصوير حالات صادمة من القتل المريع وحز الأعناق، مخترقاً بثقة هذا العالم الليلي الخطير “كزاحف ليل” مثابر، ملاحقاً عويل “صفارات الإنذار” ومحطات الشرطة المحلية، ليحصل على “سبق تصويري”، محولاً صور الضحايا لحفنة من الدولارات، ولا يخفى مساعدة “المتقاعدة” رينيه روسو له ببداية عمله، كما يساعده شاب مسكين عاطل (الممثل بيل باكستون)، عارضاً عليه أجرً بخساً لا يتجاوز الـ35 دولاراً بالبداية، وحتى بذروة نجاحه بآخر الشريط يبخل عليه، مكتفياً بأجر لا يتجاوز الـ75 دولاراً، فيما يبيع شريطاً يتضمن مقتل ثلاثة أشخاص (رجل وزوجته وخادمة) بـ15000 دولار لصاحبة المحطة “روسو”، محتفطاً بتفاصيل هروب المجرمين بسيارة دفع رباعي، لكي يستغلها لاحقاً في المشاهد الأخيرة، ثم تتبع بمهنية وبرود ذهاب المشبوهين لمطعم وجبات سريعة، واتصل بالشرطة، وانتظر بهدء معرضاً زميله الشاب للخطر، وطالباً منه أن يرصد بدقة مجريات الأمور بعد دخول الشرطة للمطعم، ليصور حالات تبادل إطلاق النار المفاجئة وسقوط القتلى (لا أدري لماذا تذكرت هنا “آل باتشينو” بفيلم “العراب” وهو ينتظر قلقاً اللحظة الملائمة لإطلاق النار على التركي وضابط الشرطة المرتشي في مطعمم إيطالي راقٍ ببروكلين)… ثم هروب أحد المشبوهين مصاباً، وتعقب المطاردة المثيرة مع سيارات الشرطة، وصولاً لتصوير هروب القاتل وتعرض زميله لرصاصات قاتلة، وتابع مصوراً مشهد مقتل المجرم من قبل الشرطة، ولكننا لا نكاد نفهم سبب استنكاف المجرم عن قتله بالمشهد الأخير وقد حانت له الفرصة، وربما لسبب غامض مجازي (وكأنه شعر بأنه يتماثل معه)!
يدخل غيلروي بهذا الفيلم الغريب والصادم حقل الإخراج بجرأة لافتة، مقدماً شريطاً سوداوياً، وتكاد تشعر بأنك ترى فيلم جريمة فرنسياً من بصمات المخرجين الشهيرين “بريسون وفيلفيل”، فيلم يغوص بزوايا وأزقة الحوادث والإجرام لمدينة تشع بأضواء النيون ليلاً، وكما يفعل بطله الغريب، فهو ينجرف مصوراً كوميديا سوداء مرعبة بنمط إخراج وثائقي، حتى لا نكاد نميز بين الضحايا والمجرمين ورجال الشرطة، وبكاميرات مزروعة ثابتة ومتحركة، وتكاد أحيانا لا تصدق أنك تشاهد تمثيلاً وخاصة باللقطات الأخيرة التي تركز على صور الضحايا بالمنزل الثري، أو بطريقة تصوير مشاهد القتل داخل المطعم، كما أنه يستغل كل اللحظات السينمائية بسياق السيناريو بلا هدر، مستخدماً حيوية التصوير ومهارات القطع والمونتاج… مستكشفاً خفايا الحوادث بالأزقة والزوايا القذرة، بعيداً عن أناقة الصور السينمائية المنمقة بالاستديوهات.
الشريط كما يبدو أقل اهتماماً بالبعد الاجتماعي، بقدر انغماسه بدراسة الشخصية التي تبدو “طموحة ومستبدة وسيكوباتية”، والتي تمثل جنساً من “الزواحف الآدمية” التي تمثل بحد ذاتها تهديداً لوجودنا الأخلاقي، وهي “انتهازية ومقرفة وطريفة” في آن واحد، ولا يختلف السلوك هنا عن ممارسات البعض القاهرة بتصوير الحوادث والأشخاص بالموبايل لوضعها مستعجلاً بصفحته على الفيسبوك، وتسجيل سبق “فيسبوكي”! كذلك فهو فيلم صادم بطريقة كشفه الجريئة “القاتمة” لعالم ومخاطر الميديا والصحافة المتلفزة واستغلالها لمصائب الناس، وبطريقة استهلاكية تدل على “وضاعة” الفضول البشري وأنانيته القاهرة!
بدا الممثل جاك جيلنجيهال بعمره الذي لا يتجاوز الـ33 عاماً، وكأنه يؤسس هنا لشخصية “شيطانية” مستغلة لا ترحم، وبدا عنيداً ومخيفاً ومتفاعلاً بطريقة كلام وسلوك خاص وتحديق “ميت بارد” بعيون جاحظة، لا يمكن كبح جماحها وجنونها وطموحها.

شاهد أيضاً

غرناطة ..آخر الأيام: مسلسل الكاتب وليد سيف الجديد

(ثقافات) غرناطة ..آخر الأيام: مسلسل الكاتب وليد سيف الجديد زياد أحمد سلامة    “غرناطة…آخر الأيام …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *