*يوسف أبو لوز
أول دفء عائلي محاط بالأب والأم، هو أول ماء مقدس يسقي النبتة السحرية الغامضة في قلب الشاعر، وأول حنان وأول امتلاء في القلب والروح.. يبدأ من بيت العائلة أو من شجرة العائلة التي يتوحد في ساقها كائنان مضيئان بالعافية والحماية والأمان.. الأب والأم.
ما هي مؤثرات الأب والأم في التكوين الشعري والثقافي للشاعر؟ ما هي البيئة العائلية والاجتماعية وحتى السياسية والثقافية التي كانت تحيط بالأب والأم بالنسبة لعدد من الشعراء العرب الذين يعودون زمنياً إلى الستينات والسبعينات من القرن الماضي؟.. ذلك ما يحاول هذا التحقيق معاينته وتقصيه خصوصاً أن آباء وأمهات هؤلاء الشعراء هم من الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين.. حيث لم يتوفر لهؤلاء الآباء والأمهات فرص القراءة والكتابة والتعلم.. ولكن، هؤلاء «الأميون» الرائعون أنجبوا للحياة الشعر والشعراء.
الكاتب الأمريكي «مايرون أولبرغ» ولد لأب أخرس، وأم خرساء، وكل ما لهما من لغة هي لغة الأيدي «التي ملأت البيت بالكلام». وهذا الكلام الإشاري الملوح في الهواء سوف يلتقطه «أولبرغ» ويحوله إلى عمل روائي من أعذب السرديات الإنسانية الدافئة في كتابه ( يدا أبي).
والكاتبة اليوغسلافية «إلما راكوزا» تتحدث عن والدها بعد موته بهذا الولع العميق بكائن هو تاريخها البشري المكثف في صورة رجل سيكون له لغته أيضاً في كتاباتها المشتقة من أب مات ولم يترك وراءه شيئاً… تقول راكوزا عن أبيها: «تشممت ثيابه المعلقة في الخزانة بوداعه. صفوف الثياب كأعداد مصفوفة. كُم البلوفر الرث رخي، تحته النعل الجلدي. شعور كالشفقة يصعد في نفسي.. أية طيبة هذه.. أي ولاء.. توقفت أمام قطيع ربطات العنق، وعنده، تراجعت».
في هذا التحقيق كان لافتاً لي أن أغلب أمهات الشعراء يجدن الغناء وسرد الحكايات.. وبعض آباء الشعراء يأخذه الغناء أيضاً، واللافت كذلك أن هؤلاء الآباء والأمهات بالسليقة والعفوية الطفولية علموا أبناءهم سر الشعر من دون أن يعرفوا هم أنفسهم هذا السر.
عدد من الشعراء العرب يبوحون بعودة حميمية إلى ماضي السنوات «الغنائية».. عن صانعات الشعراء والغناء، وحراس القصائد.
قال الشاعر الفلسطيني خالد أبو خالد: «أريد القول إن لي ثلاثة آباء، الأول أبو خالد القسام الشهير القائد الذي شارك في تفجير ثورة الثلاثينات من القرن الماضي واستشهد فيها، وكان هذا وهماً وحلماً وإشاعة، فأنا لم أعرفه وكان عمري سنة واحدة حينما استشهد، وأبي الثاني هو جدي لأمي، الذي أجرى أول تحوير ربما في النص الشعري العربي، عندما وقفت معه على ضريح أبي، فقال بدل «يا ظلام السجن خيّم».. «يا ظلام القبر خيم، إننا نهوى الظلام»، وقد أسهم في تربيتي وعلمني القرآن الكريم والقراءة والكتابة، وأبي الثالث هو الشاعر العظيم الشهيد عبدالرحيم محمود، فهو الذي علمني كيف ألقي الشعر وأتعامل مع الحياة وأذهب للسينما والمسرح وكرة القدم والشطرنج.. إلخ في كلية النجاح الوطنية، وكيف كان يحرسنا نحن أبناء شهداء فلسطين، لأن شهداء فلسطين كان عليهم ثأريات من الخونة الذين ذهبوا إلى غير رجعة بيد الثوار. ثم ودعنا عبدالرحيم محمود وذهب ليستشهد في معركة الشجرة.
أمي هي السيدة التي فقدت زوجها شهيداً عندما كانت في الثامنة عشرة، وسقطت أسنانها في وقت مبكر، قبل أن تصل إلى الخامسة والثلاثين، لأنها كانت تحمل الأحجار على رأسها وتعمل في أرض الناس، فلم تكن لنا أرض قابلة للزراعة، حيث كانت تعمل بما يساوي «الشلن» في اليوم، و«الشلن» يساوي خمسة قروش والجنيه عبارة عن 20 شلناً. هذه الأم هي التي علمتني الشعر، لأنها كانت تدمدم كي أنام، وهي التي كانت تشجعني لكي لا أخاف من القوات الإنجليزية التي كانت تقتحم البيت والقرية وتخلط العدس بالحمص والطحين بالقمح.. إلخ، فكانت تبدو عندما يدخلون إلى بيتنا وهي تصلي. لا تتحرك سوى أنها تكمل صلاتها ومن ثم تقول «السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله»، ويبدأون بالتفتيش، والإنجليزي يقول لي «لا تخاف خبيبي لا تخاف». هذه الأم العظيمة هي التي ربتني بأظافرها وعرقها ودموعها، ولا أنسى أنها كانت متماهية مع القرية التي كفلتنا أيضاً والتي لا أنسى جميلها من جيراننا وحتى أقاربنا وكل الذين كانوا يوزعون الفطور في رمضان. أذكر أنه كان لي أستاذ في الصف الأول ابتدائي في قريتنا قبل أن أذهب إلى جامعة النجاح، اسمه تيسير النابلسي وربما كان هو الأب لفترة قصيرة قبل جدي، حيث كان يحضر لي معه من نابلس كل فترة قميصاً أو سروالاً أو حقيبة، هذا الرجل كان حنوناً جداً ولا أزال أسأل أين ذهب وأين أرضه ولا أعرف، حيث كان يعمل حينها مدير مدرسة. هؤلاء كانوا بالنسبة لي نمطاً شعرياً في سلوكهم وحياتهم، وعبدالرحيم محمود كان شاعراً، وهو حينما ألقيت أول قصيدة تحت عنوان «النرجس» في كلية النجاح، أخذ الأولاد حينها بالضحك علي، فرد عليهم بأنهم مخطئون وأن حماستي في القراءة جيدة، وبالتالي هو الذي علمني كيف ألقي الشعر، ثم هو أيضاً من علمنا كيف نتطلع إلى المسرح، وكان يأخذنا إلى رحلات كشفية وعلمنا كرة القدم، وكان يقودنا في المظاهرات ضد تقسيم فلسطين».
حول البيئة السياسية والثقافية في أربعينات وخمسينات القرن الماضي يقول أبو خالد: «في تلك البيئة كانت كلية النجاح وطنية بامتياز، وكان يدرس معنا أناس من «السمرة» وهم اليهود الأصليون، ولذلك كنا نشعر أن هناك حالة وطنية في كلية النجاح، لذلك كان اسمها كلية النجاح الوطنية، وبالتالي كانت هذه الكلية دائماً تربي على أساس أن فلسطين هي لأصحابها وأنها تتعرض للغزو، وكانت تغلب التناقض الرئيسي على التناقض الثانوي، إذ ترى في التناقض مع الإنجليز تناقضاً رئيسياً».
حول تجربته كمقاتل وامتداد ذلك من والده قال أبو خالد: «هذه التجربة هي محصلة التربية والحلم وأذكر أنني حلمت دائماً بأن أكون مقاتلاً، لأنني منذ الصغر أسمع الناس يقولون «ريته خلفة أبوه» ومن «خلف ما مات»، وهذه أيضاً سلحتني بروح جديدة، ولدي ثلاثة ضمائر، الأول ضميري وضمير آبائي وضمير أمي وأيضاً هذا الدعاء الذي كان يؤهلني لأن أكون محارباً من أجل فلسطين، حتى إنني حاولت التطوع في الحرس الوطني وفشلت في ذلك، وحاولت التطوع بأي صيغة في العسكر وكان الأخير وسيلتي لاستعادة فلسطين، ولم أكن أصنف العسكر بأن هذا حرس وطني والآخر جندي، بل كان العسكري بالنسبة لي هو الذي سيعيد فلسطين، وهذا كان مثلاً أعلى بالنسبة لي».
ويضيف أبو خالد: «لدي ابنتان، الأولى شاعرة وهي عالمة في الأورام واسمها بيسان، وهذا الاسم يعود لمدينة فلسطينية كما تعرف، وحينما حملت بندقيتي، حفرت اسم بيسان على البندقية وبعثت لأصدقائي رسائل تتضمن صيغة مع تحيات الشاعر المقاتل وبندقيته بيسان، ثم جاءت بيسان فأصبحت شاعرة، وابني شاعر بامتياز، لكنه لا يحب أن ينشر، ربما لأنه اعتبر أنه أدركتني حرفة الأدب فجعت، فقرر ألا يتبع هذا الطريق».
أول قلم حبر
يقول الشاعر الأردني يوسف عبدالعزيز: «أنحدر من أسرة قروية فلسطينية أقامت شمال غربي القدس في قرية قطنة التي تبعد حوالي 10 كيلومترات عن القدس، وكانت هذه الأسرة قد جاءت من قرية أخرى في قضاء اللد اسمها خربة البويرة، وعلى كل حال نحن نعرف ظروف النكبة المرعبة التي أحاطت بالأسرة الفلسطينية، وما تركت في نفوسهم من حزن وألم عميق ومن فقر أيضاً، وأذكر أن الوالد كان يحدثني عن تلك الظروف في تلك الفترة، حيث الناس في فلسطين لم يأكلوا الخبز وقتها لمدة ثلاث سنوات، والسبب في ذلك هو القحط الذي أصاب الأرض الفلسطينية والأردن في تلك الفترة، وكانوا يأكلون التمر العراقي، فكانت هناك حالة فقر شديد، وأنا ولدت عام 1956 وقريتي كانت منطقة حدودية مطلة على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، وكان هناك إطلاق نار مستمر من قبل مستوطنة يهودية باتجاه القرية، ومناوشات بين المقاومين، ما جعلنا مهجرين في تلك السنوات في القرى المجاورة، ولذلك ولدت في قرية أخرى اسمها بيت عنان، وعلى كل حال الوالد كان في جيش عبدالقادر الحسيني قبل العام، 1948 وانتمى إلى منظمة ما كان يسمى بالجهاد المقدس، وعندما استشهد عبدالقادر الحسيني في قرية القسطل القريبة من قريتنا حيث وقعت المعركة الحاسمة بين جيش الإنقاذ الذي يقوده الحسيني والعصابات الصهيونية واستشهد عبدالقادر في المعركة وحدثت الهزيمة العربية مع الأسف جراء تلك المعركة، سيطر اليهود على منطقة استراتيجية مطلة على القدس، وبعد العام 1948 ومع ظروف القهر انخرط والدي مع المقاومة المسلحة التي كانت تتسلل إلى المستعمرات الصهيونية، ثم تذهب إلى حقول القمح والكروم المحتلة في العام 1948 وتأتي بالثمار والفاكهة إلى قرانا، وكان والدي يعمل أحياناً في مجال البناء، وشخصيته هي شخصية المناضل الفلسطيني القوية والشرسة، وأذكر أنه قال لي مرة إنه اطلق اليهود النار عليه أكثر من 100 مرة، وبناءً على ذلك لم يكن يستسلم للأعداء وكان يتسلل إلى المستعمرات ويجلب الطعام لنا، ومنذ الطفولة قال لي جملة ما تزال ترن في رأسي وهي «سأدرسك وأدرس إخوتك وأخواتك ولو أدى ذلك لأن أبيع قميصي»، ولذلك خلق لنا السعادة من العدم ومن الصخر، وأذكر أنني في عام 1967 حيث فزت بجائزة أدبية وأعتقد أنها الأهم في حياتي، حيث جرى تكليفنا من قبل مدير المدرسة والمعلمين على أن نكتب موضوعاً عن القدس، فكتبت موضوعاً عن حبي لهذه المدينة التي كانت والدتي تأخذني أسبوعياً تقريباً معها إلى المدينة، وحينما فاز موضوعي تم استدعائي من قبل إدارة المدرسة، واجتمع حولي المدير والمعلمون، وقالو لي إن هذا الموضوع ليس من كتابتك وإنما هناك رجل ربما إخوتك الكبار من كتبوا هذا الموضوع، ورددت عليهم بأنني من كتب هذا الموضوع، فقالوا إن هذا مستحيل، ثم ذهبوا في زيارة إلى بيتنا واجتمعوا مع والدي وإخوتي، وسألوهم وتأكدوا أنني من كتبت الموضوع، وعندها فرحوا فرحاً شديداً، وقمت بقراءة ما كتبته أمام الطلاب في المدرسة، وبعدها قلدوني قلم حبر».
عن أثر الأب والأم في تكوينه الثقافي قال يوسف عبدالعزيز: هاجرنا إلى العاصمة الأردنية عمان وبعد ثلاث سنوات أي في العام 1970 كتبت أول قصيدة في حياتي، وحينها كنت في الصف التاسع، وسمع الوالد من إخوتي وأخواتي في المنزل أنني أكتب الشعر، فناداني وقال لي ما قصة الشعر هذا؟ فأخبرته أنني أريد أن أصبح شاعراً، ففرح لكنه كتم ابتسامته، وقال لي هل يطعمك هذا الشعر خبزاً، فرددت عليه بأنه يطعمني ولِمَ لا، وقال سأعلمك لكن أتدري أي مهنة تجلب الأموال، وقال إنها مهنة البناء الذي يحصل على مبلغ 15 ديناراً في الشهر، فأكدت له بأنني أريد أن أكون شاعراً، وبعد عامين من هذا التاريخ نشرت أول قصيدة في صحيفة اسمها الصباح في العاصمة الأردنية عمان، وكانت هذه الصحيفة تصدر يومياً، حيث أخذت نسخة وكلي فرح كبير، وقرأتها أمام الوالد والوالدة في منزلنا، وفرحوا كثيراً لكن والدي نتيجة لشخصيته القوية كتم ابتسامته إلى حد ما، وبعد سنوات ذهبت إلى فلسطين المحتلة بتصريح خاص، واشتريت ديواناً لمظفر النواب «وتريات ليلية»، وهذا الديوان كما هو معروف مملوء بالسباب والمواقف السياسية، وفي يوم من الأيام كنت أقرأ هذا الديوان بصوت عالٍ، فجاء والدي واقترب مني وقال أكمل قراءة كل الكتاب وبالفعل قمت بذلك، وعندما أنهيت الكتاب قال لي هذا هو الشعر العظيم، ولا تكتب شعراً غامضاً بكل أكتب كهذا الشعر وفرحت بذلك، وفي اليوم التالي كنت أبحث عن الديوان لكنني لم أجده، وسألت الوالدة لترد علي أن ديوان مظفر النواب أخذه والدك وحرقه، وحزنت كثيراً، فقلت لوالدتي لماذا حرقه أبي، فردت علي بأنه يخاف من أن اعتقل. كان أبي أمياً لكنه كان مثقفاً، والوالدة أمية أيضاً لكنني استقيت الشعر منها وأثرت بي بشكل كبير، حيث كانت تنشد على القوالب الوزنية وتغني منذ الصباح إلى المساء مدة 12 ساعة كاملة، وتغني سواء في الحقل أو البيت، وحين كنت أقول لها إنني أريد أن أقرأ على مسامعها قصائدي الجديدة، كانت ترحب بذلك وتفرح، كما تغني لي أغاني وطنية وأخرى فيها تجريد، حيث تأخذ القالب الوزني وتضع المفردات من عندها، ووالدها كان شاعراً شعبياً حيث ورثت الشعر عنه، ولذلك أقول لك إن والدتي كانت تستوعب شعري، مع العلم أنها تستحضر مفردات مدهشة وفيها خيال عجيب، وكانت تغني: «يا سمكة البحر تمشي على زرد فضة»، فلك أن تتخيل هذه الصورة الشعرية العفوية وهي أن التموجات الموجودة في البحر تشبه زرد الفضة، وكل ذلك كون قيمتي الشعرية».
«صندل» عبدالناصر
الشاعر المصري عزت الطيري قال: «الأم كانت حكاءة جميلة، حيث مدتني بالحكايات وأنا طفل صغير، لتصنع لي خيالاً غير خيالات الأطفال الآخرين في القرية، فأمي لم تكن تقرأ أو تكتب، لكنها حكاءة وصوتها جميل، فإذا لم تستطع القصة أن تصلني بالحكي فإنها تصلني بالغناء، ولذلك أول ديوان أصدرته في حياتي كان إلى أمي التي علمتني حب الشعر والغناء، أما الوالد فكان رجلاً أزهرياً تخرج من الأزهر، وفي مكتبته كنت أجمع بين صحيح البخاري وتفسير ابن كثير وبين مجلات الكواكب ومجلة الدنيا التي تهتم بالمطربين والممثلين، وكان هناك تناقض بين الاثنين، لكنه كان يجمع كل الثقافات بصفته رجلاً مثقفاً، ووالدي علمني بطريقة قديمة تعلم هو بها، وما إن وصلت إلى سن السادسة كنت أكتب وأقرأ بطلاقة، وفي مكتبته كنت أجد قصص الأطفال لكاتب اسمه محمد أحمد برانق، وجاذبية صدقي، وكل هؤلاء الكتاب غذوني بالخيال، فحينما كنت طفلاً صغيراً كان هناك مركب في النيل يسمى «صندل»، ينقل البضائع من مكان إلى آخر، وكان اسمه «صندل جمال عبدالناصر»، وحينما سألت والدي عن المركب، كنت معتقداً أن صندل هو الحذاء، لكنه قال إن صندل هو المركب، وأيضاً أذكر حين كانوا يبنون العمارة كيف تخرج منها أسياخ الحديد ويرشونها بالمياه حتى يلتحم الأسمنت ببعضه، وسألت والدي عن سبب رش الحديد بالمياه، فأجابني بأن ذلك يحصل كي ينضج الحديد ويتجه إلى الأعلى، وبالتالي كان يزرع والدي الخيال في عقلي، ودوره كان مهماً جداً في خلقي كشاعر، لكن وللأسف الشديد حينما وجدني أكتب أول قصيدة حزن جداً لأنه أحس بأن هذا الشعر سيبعدني عن دراستي ومستقبلي، وأذكر أيضاً أنني حين كنت في الجامعة خرجت من المنزل غاضباً لأن والدي لم يرسل لي نقوداً، فأرسلت له خطاباً مسجلاً قلت فيه «طمنونا عنكم»، والمغزى من ذلك بأن يرسل شيئاً من النقود، فأرسل خطاباً مسجلاً مستعجلاً وما أن فتحته حتى وجدت كلمة واحدة (اطمئن)، وبالتالي علمني الإيجاز واستفدت منه التكثيف في كتابة الشعر، خصوصاً وأنني استفدت من حديث مع والدي قبل ذلك عن معنى التكثيف، حيث رد علي بالقول إنه لو أحضرنا قالباً من السكر ووضعناه في برميل من المياه فلن نشعر بحلاوة السكر، لكن لو وضع في كوب صغير فإننا سنشعر بالحلاوة، وهذا بالفعل ما حدث مع قصيدتي، بحيث أكثف القصيدة وأن لا تحتمل أي زيادة بلاغية لا لزوم لها».
رجولة مبكرة
الشاعر العراقي د. علي جعفر العلاق قال: «دائماً حينما أسأل عن تجربتي أو طفولتي لابد لي من أن أضع على هذه العتبة الشجية الأم والأب، وربما كنت محظوظاً أن أولد في قرية نائية صغيرة في محافظة واسط جنوبي العراق، فهذا الحظ يتجلى بأنني فتحت عيني على أب يقرأ ويكتب، بالرغم من أنه فلاح، إلى جانب أنه كان يتمتع بوجاهة معروفة في القرية، لا لثرائه وإنما لانتمائه الديني والأسري الذي كان يشكل تقليداً راسخاً جنوبي العراق، وهناك عائلات لها مكانة دينية بحكم انتمائها القبلي أو العائلي.
الكتاب الأول الذي رأيته كان ممزق الغلاف وهو نسخة من القرآن الكريم، وأما الكتاب الآخر فكان «نهج البلاغة»، وتصور في ذلك العمر المبكر معنى أن أعثر على كتابين لهما هذه الأهمية سواء في الفكر الديني أو الثقل البلاغي واللغوي وأنا ما زلت صغيراً، وليس لدي من الوعي لفهم واستيعاب هذين الكتابين، وأبي علمنا القراءة والكتابة ونحن أربعة إخوة، وكنت معجباً به أيما إعجاب.. بفصاحته الريفية الجميلة التي كانت تسحر ديوان الجالسين في ديوان شيخ القرية، وهذه لابد من الإشارة إليها، حيث كنا نعيش ضمن نظام إقطاعي صارم جنوبي العراق وخاصة في محافظة واسط، لكن كان لوالدي مكانة خاصة، لأن والدي علم أبناء الشيخ القراءة والكتابة، وكنت أقول في إحدى قصائدي «.. يمد كفيه إلى كوته يخرج منها غيمة أو كتاباً، يقرأ عن أزمنة لم تحن وعن أساطير مضت في الغياب».
صورة الأب حاضرة في دواويني، حتى إن ديواني الأول مهدى لأبي، وكأنني أحس أن هذا الأب كان قد زرع البذرة الأساسية لدي حتى أكون شيئاً مهماً في المستقبل، واللمسة المهمة التي لا أنساها، أنه كان يأخذني إلى مجلس الشيخ الإقطاعي المشهور، ويطلب مني أن أقرأ ما حفظت من شعر شعبي أو فصيح في بعض الأحيان، فكأنه كان يعلم شفتي النطق ويعلم نفسي هذه البسالة اللغوية بأن أتحدث أمام الناس دون خوف أو أن تهتز شخصيتي، ودائماً أقول لمن يثني على طريقتي في الحديث، أن هذا يعود إلى الإرث الأبوي الذي تركه والدي لي، وهناك مشهد لا يفارق ذاكرتي وهو حينما حضرت وفاة والدي في الخمسينات وحينها كنا قد ذهبنا إلى بغداد، حيث كنت جالساً مع إخوتي وأمي إلى جانبنا، قال لأمي «إياكي أن تخرجي علي من المدرسة»، مع أنني لست أصغر الإخوة ولا أكبرهم، وتساءلت لماذا لم يوص بأخي الأصغر مني، ولماذا أنا بالذات، وكأن والدي أحس بي، وهذه الإشارات التي تبشر بإنسان مختلف عن سائر إخوته، حيث كان يراهن على ذاكرتي مراهنة كبيرة، وكان يُعنى بي عناية خاصة في تحفيظ الشعر، وبالفعل حفظت الشعر الفصيح والشعر العامي، ودائماً حينما أتحدث عن تجربتي أقول «للمرة الأولى عرفت أن للشعر قائلاً من البشر»، والشيء الأخلاقي والتربوي الذي أتذكره في والدي، أنه كان مثالاً في طريقة تصرفه بين الناس، وهذا الاحترام المدهش من قبل الفلاحين جعلني أحس مبكراً بأنني أنتمي إلى أب مختلف، وعلي أن أكون مختلفاً عن أقراني، وأتساءل عن هذا السحر الذي كان يحظى به بين القرويين والفلاحين، إذ حين كنا نخطئ ونعاقب، كنت أنجو من العقوبة حينما يعرف أهل القرية أنني ابن فلان، فأقول ما هذا السر؟ وهذا أدخلني إلى رجولة مبكرة وربما هذا جانب قد يكون سلبياً، لأنني مررت سريعاً بالطفولة، وعبرت إلى مرحلة كاد يكون فيها وعيي فائضاً عن سني آنذاك، حيث نشأت ولدي إحساس عالٍ بالمسؤولية، ولدي خوف رهيب من الخطأ وأقصد بذلك الخطأ الاجتماعي والأخلاقي، وكانت البوصلة التي تجنبني بعض المواقف الحرجة، هو ذلك الوالد الذي يتمتع بشخصية ذات سحر خاص، وبالتالي فإن الأب والمكان والأم أثروا في حياتي.
كانت والدتي امرأة بسيطة جداً وغير متعلمة، لكنها ذكية شديدة الذكاء وتقول الشعر العامي والشعبي، وكانت تتمتع بصوت جميل وشجي، خصوصاً في المناسبات الدينية، حيث كانت تقرأ في المآتم، وأظل أقول لولا تلك الأم العظيمة وذلك الذكاء البسيط والجميل والساذج لما جئنا إلى بغداد في عمر مبكر، حيث كانت تحب والدي حباً جنونياً لا يصدق، وتلح عليه بأن علينا الرحيل إلى بغداد حتى يكون لنا مستقبل آخر غير الفلاحة، وهذا الوعي بحد ذاته عجيب بالنسبة لامرأة بسيطة لا تعرف القراءة ولا الكتابة، وعليه استطاعت أن تقنع والدي أن يترك الأرض ويذهب إلى بغداد وعندما جاء إلى بغداد سكن في المناطق التي تعج بأبناء الجنوب الذين حملوا فقرهم وأغانيهم وعاداتهم، فكأنها بقعة من ريفه الذي عاشه».
ويضيف العلاق: «الوالد لم يدرك كتابتي الشعر لكنه أدرك تفوقي في المدرسة وأنا في سن مبكرة، لكن أمي ظلت تدرك ذلك، لأنني منذ الخامس والسادس الابتدائي بدأت كتابة القصيدة الشعبية العامية وكانت تذاع نماذج منها من الإذاعة في بغداد، وكانت تزهو والدتي زهواً بشعري الذي لم تكن تعرف معانيه، وكلما كنت أريها شعراً منشوراً لي، أجد الفرحة الكبيرة في عيونها والإحساس بأنها نجحت في إقناع والدي بالذهاب إلى بغداد، ووالدي الذي كان يتمتع بخصلتين متناقضتين، الحنان الشديد والصلابة في الوقت ذاته، حسب الموقف الإنساني الذي هو فيه، حتى إنني أقول «لا شيء أندى من دلالات اسمه، لا شيء أقسى من حصا يديه»، فاسمه كان جعفر ويعرف في اللغة أنه النهر الصغير. إن موت والدي كان أول كسر في حياتي، وشعرت وقتها أن الكثير من مباهج الحياة قد ولت وعلي نسيانها والاستعداد لمرحلة من الرجولة المبكرة وتحمل المسؤوليات، فكنت أنا وإخوتي نسعى دائماً إلى تعويض أمنا وهي كانت شابة عندما ترملت، حيث كنا نحاول تعويضها بأننا رجال وأن عليها الاعتماد علينا، وفي ليالي المطر الشديد حيث كنا نسكن تحت سقف من سعف النخل التي تكاد تتطاير في أبسط عاصفة مطرية، إذ نتوزع أنا وإخوتي على السقف للإمساك بأطرافه إلى أن تتلاشى العاصفة، لننزل ونشاهد والدتي توزع الأواني تحت الأمطار التي تتساقط وتتسرب من السقف، فكنا نشعرها بالأمان في الوقت الذي كنا نشعر بالخوف الشديد، ولما توفى والدي أحسسنا بمسؤولية مضاعفة وأنا بشكل خاص، وحين ماتت والدتي كنت وقتها أعد الدراسات العليا في بريطانيا، حيث خبأ إخوتي الخبر مدة عام كامل عني، ووقتها اندلعت الحرب العراقية – الإيرانية وكان من الصعوبة التنقل والمجيء إلى بغداد، إلى أن جئت في زيارة وعرفت بموتها، وقمت بإهداء أطروحتي لها وكتبت في الإهداء: «إلى أمي التي رحلت بعيداً بينما كنت منغمراً في كتابة هذا العمل» أما الأستاذ المشرف على أطروحتي فقال هذا ليس إهداءً بل قصيدة، وبقيت فترة أحس بيتم حقيقي للمرة الأولى بفقدان والدتي.
إن رحيل أمي يجعلني الهدف المباشر القادم للموت، وأشعر بان وجود الأم سقف أو جدار من الحماية يقيني، بمعنى إن كانت أمي على قيد الحياة فإن ذلك يشعرني بأن هناك متسعاً من الوقت والعمر، وأي صديق أتعرف عليه أسأله إن كانت أمه على قيد الحياة أم لا، وأحدهم أخذته الغبطة الشديدة بأن أمه على قيد الحياة، ربما لأن لديه متسعاً من الوقت حتى يعتني بها كما ينبغي أن يعتني الابن بأمه».
شعراء وليسوا شعراء
الشاعر السوري عبدالقادر الحصني قال: «الأب والأم مفهومان كبيران وواسعان جداً، حيث يتعديان في بعض الأوقات الوالد والوالدة، وهما ليسا بما يؤثران به مباشرة، بل بما يؤثران به على نحو غير مباشر، فأياً كان أب الشاعر أو أمه من الدرجة الثقافية أو العلمية أو الطبقة الاجتماعية… إلخ، فهذه كلها لا تؤثر كثيراً في العمق الأبوي أو العمق الأمومي في العلاقة بينهما أو مع ابنهما، ففي الحياة علاقات أعمق بكثير من الكتابة والقراءة، وأعمق بكثير حتى من التفكير وحتى الموروثات العامة والتقاليد، وهناك الخصوصيات، إذ ثمة أناس من العالم على درجة عالية من الخصوصية كعلاقتهم بالوجود والحياة، وهؤلاء لا نعرف كيف يبثون إلينا ما فيهم، ولا أعرف كيف يوصلون ما فيهم من شعر إلينا، فلا يوصلونه عن طريق كلمات وعبارات، وإنما يوصلونه على مستوى الفحوى الشعري، والمناخات الداخلية العميقة التي تسكن الإنسان.
والدي متعلم بثقافة تقليدية، يحب الشعر ككل أفراد الأسرة حيث ولدت في كنف أسرة مهجوسة بالشعر وكلهم يقرأون ويكتبون ويتناشدون الشعر مساءً في البيت، وكان عندهم ميزة أثرت في بشكل قوي، حيث كانوا يقولون لي إنهم يكتبون شعراً لكنهم ليسوا شعراء، وهم يستطيعون أن يكتبوا في كل مناسبة عائلية أو اجتماعية مثل الزواج أو الموت أو الختان. لكنهم يقرون في داخلهم أنهم ليسوا شعراء، وهذا ما غرس في سؤالاً عميقاً حول.. من هو الشاعر؟
أتحدر من أسرة ذات عمق صوفي، وجدي أحد الشيوخ الصوفيين، وكما تعلم، التصوف يمزج الدين بالموسيقى، والغناء بالمعاني والخيال والتصوير، ودعني أقول إن هذا مثل شراب سائغ يتألف من عدد كبير من المكونات الجميلة التي تتلاقى وتتماهى وتصبح شراباً ساحراً على مستوى الخيال وعلى مستوى الموسيقى والتأمل والفكرة ومعانقة الأرض، فهي رحلة وجودية كبيرة، وهذه كانت مؤثراً من المؤثرات الكبيرة في بدايات تطلعاتي إلى الشعر في ظلال الأب والأم والجد، والأم بالنسبة لي كانت أقل أفراد الأسرة قولاً واهتماماً بالشعر المنظوم، لكنها في رأيي كانت الأكثر شعرية بين كل أفراد الأسرة الذين يحيطون بي، والأكثر شعرية في رهافة تعاملها مع اللحظات التي نمر بها في الحياة في طفولتنا، وفي طفولتي لقنتني دروساً كثيرة جداً بشكل غير مباشر، وجعلتني أعيد النظر في أشياء كثيرة في الحياة، حيث كان لها تأثيرها في الشعر وفي غيره أيضاً من مكوناتي الثقافية، وأذكر أنها مرة سألتني عن مكتبتنا في البيت، والبيت جدرانه كتب قديمة، وعمري حينها كان تسع سنوات تقريباً، وهي تكبرني قليلاً كونها تزوجت صغيرة، وسألتني ما هذه الكتب، فهي تقرأ قليلاً لكن هذه الكتب الضخمة والهائلة بالنسبة لها صروح معرفية مذهلة، وهي بالكاد تكتب رسالة وتقرأ شيئاً بسيطاً، المهم أنها سألتني عن كتبنا في المنزل؟ فأجبتها أنها كتب دين، فقالت وهل الدين يحتاج إلى كل هذه الكتب؟ فرددت بنعم وأنها كتب تفسير وفقه وسيرة وحديث ولغة عربية، وهي تتفرج بذهول، كأنها تريد أن توصل لي شيئاً مهماً وبالفعل أوصلته لي وقالت: هذه كتب كما تقول وهي كتب علوم الدين، وليست كتب الدين، لأن الدين لا يحتاج إلى هذه الكتب، أما علومه فتحتاج إلى ذلك.. الدين بسيط وكلماته بسيطة وأنت تتعامل مع الناس وهم يتعاملون معك وهذا هو الدين لا أكثر ولا أقل، وسوف زمن طويل في ما بعد عندما أقرأ ما معناه أن تعامل الناس كما تحب أن يعاملوك، فهذا هو الناموس كله، وكأن هذه الصرخة عند هذه الأم قد أوصلتها إلي على نحو ثقافي معمق، وجعلتني أعيد النظر والتفكير بكثير مما استقر عن معاني الدين وعلاقة الإنسان به، وعبرت بي في مراحل تأملية إلى ما هو أكثر جمالية، وكان أسلوب تعاملها مع طفولتي أسلوب من يرصد بحساسية كل شيء يصدر عني، وكانت تلفت انتباهي إلى أشياء صغيرة عابرة ولكنها ذات دلالة، فمثلاً الياسمينة في البيت تتساقط أزهارها وفي آخر الصيف حينما لا يوجد ياسمين، تجدني جالساً إلى جوار هذه الياسمينة فتقول لي أمي هل ستنتظر حتى يأتي الياسمين مرة أخرى، لا.. لا بد أن تدخل إلى الغرفة وتنام، وتفيق وتنام، وتفيق حتى يأتي الياسمين مرة أخرى، فلا تبقى جالساً هنا لمدة طويلة، ومرة كنا نشتري من البائع زهرة معينة، ونحن نشتريها سألتُ البائع كيف نسقيها؟ فالتفتت أمي إلي بعتاب وكأنني فعلت شيئاً غير مناسب، وقالت لي كيف تسأل البائع أمام الزهرة كيف نسقيها، فالزهرة ستفهم أننا لا نعرفها ولا نعرف كيف نسقيها الماء، ولو سألتني بيني وبينك لقلت لك كيف.
أثرت والدتي في كثيراً وكنت أشعر أن فيها روح مسيحي كبير وهي لم تصرح بذلك وإنما كنت أستشعر ذلك، وأشعر برهافة إيمانية عميقة في قلبها.
النهر والمصب
قال الشاعر راشد عيسى: أفاقت طفولتي على أبي المهجّر عن منزله، كان مشدوهاً مثل نهر يبحث عن مصبه، يسكن مع أمي وأختي الوحيدة في حجرة واحدة في أول مخيم أقيم للاجئين الفلسطينيين (مخيم رقم 1، عين بيت الماء) قرب مدينة نابلس.
كان قناصاً ماهراً لأسباب الحياة، حيناً يعمل مزارعاً وحيناً يصنع من أغصان نبات الحلفا كراسي القش، وحيناً يصطاد الطيور ليطعمنا، كان سريع الغضب شجاعاً مشتعلاً بعنفوان الكبرياء، لكنه شغوف بالعزف على الناي وغناء العتابا والميجنا ورقص الدبكة، فأوقع في قلبي حب الموسيقى والزجل والصيد، إذا غضب مني أنام على سريري في شجرة التوت الضخمة، وهو فندقي المفضل بنيته من الحبال والأسلاك القديمة. ذات مساء وضع كفيه في موقد النار ورشقني بحفنة جمر لأنني حصلت على 98% من 100 في امتحان الجغرافيا. ينهرني باستمرار قائلاً (لا أريدك أن تشكو بل ابحث عن الحل دائماً وأنت مبتسم) عندما كان يعزف على الربابة يقول لي وهو يعزف اشرب الموسيقى يا ولد لكي يبتعد حزنك.. الموسيقى ماء مقدس.
تذمرت من بيتنا الطيني ذات صباح فصرخ بوجهي (نحن أبناء الريح إياك أن تفكر بالمنازل.. نحن أبناء لذة الحزن إياك أن تفكر بأسباب الخيبة اركل القمر برجليك واثقب بعينيك الغيوم). لم تكن أمي بأقل منه قساوة وعنفواناً تأمرني أن أذهب إلى الجبل لأجمع الزعتر واللوف والهندباء والخبيزة فأفعل دون تردد. وفي الصيف أتسلق الجبال وأدور بين البساتين أجمع الحطب وقوداً للبرد. لكنها كانت تساعدني في حل مسائل الرياضيات وتعلمني الحساب عن طريق عدّ الحصى. كان عليّ قبل الذهاب إلى مدرستي أن أبيع صباحاً صينية هريسة فأحصل على مصروفي ومصروفها. تضع الجرة الفخارية على رأسها وتهرول نحو النبع مثل غزالة، في بيتنا قنديل صغير واحد فإذا زارنا ضيف في المساء أحملني إلى أقرب عمود كهرباء يبعد خمسة كيلومترات لأدرس على نوره البعيد. عشت طفولتي وأبي يردد في سمعي لا تفكر بالزمان ولا المكان ولا تخبّئ في رأسك أي أفكار، كن مثل الصقر كل ما تصطاد فقط. اضحك على الدنيا وصدق كذبتها الكبيرة فتخاف منك.
طرزت لي أمي وأنا في العشر سنين خريطة فلسطين على حقيبتي القماشية، أحملها وبداخلها خمس حبات زيتون وقطعة خبز مطلية بمربى العنب. تذهب أمي مع أبي إلى البستان المستأجر فتزرع وتعشّب وتعبّئ الثمار في صناديق، وتخبز خبز الصاج وتطبخ وتملأ البرميل بالماء المنقول على رأسها من النبع البعيد، كانت ثلاثة مزارعين في امرأة، ها هي بلغت التسعين الآن وما زالت تهدد الغيمة بأن تثقبها بالعكاز إن لم تهطل المطر.
كانت قسوتها عليّ أحياناً تدعوني إلى أن أذهب إلى بقرة جيراننا النائمة تحت التينة وأطلب منها الحنان، عرفت الآن لماذا قلت ذات قصيدة:
كان لنا بقرة
غاية في الأمومة أو في الوداعة
كم كنت رضعت حليباً منها
ولذا ابنها العجل صديقي
وأخي في الرضاعة.
______
*الخليج الثقافي