* د. أشرف صالح محمد
خاص ( ثقافات )
تأليف: عرفة عبده علي
لم يُقدر لواحدة من عشرات المدن التي أسسها “الإسكندر الأكبر” في ربوع إمبراطورتيه المترامية، أن تشهد مثل ذلك المجد، وتلك الشهرة التي حظيت بها الإسكندرية “المدينة الخالدة” .. “عروس البحر”، وسيدة مدائن عصرها، حتى أسماها أثينايوس “المدينة الذهبية”، موسوعة رائعة من الجمال، يحيط بها الجلال، وتحف بها العظمة، وزادتها القوة مهابة، حتى فاقت مدينة أثينا الخالدة، ومدن اليونان في جنوب إيطاليا، ومدن العالم الهيلاني في الشرق القديم.
وإذا رحلنا إلى الماضي بخيالنا سنرى كيف استطاع الفن أن يتغلب ويقهر الطبيعة، وستتمثل لعيوننا عبقرية الإسكندر في اختياره لشاطئ يابس مقفر ليكون قاعدة لمدينة رائعة يجعل منها نهاية لفتوحاته وغزواته العالمية. وسنشاهد كيف تبلورت وتألقت الفنون والعلوم على يد البطالمة، وكيف استطاعوا أن يجمعوا وينشئوا أكبر مكتبة عرفها العالم القديم على الإطلاق، والتي استغرق تدميرها سنوات طويلة، وكانت الأساس الذي قامت عليه جامعة الإسكندرية القديمة، والتي جعلت من المدينة – طيلة سبعة قرون – ينبوعًا للإنسانية المفعمة بالحيوية، وخلية حياة إبداعية مزدهرة من آداب وفنون وأخلاقيات وفلسفات عالية رفيعة.
ومؤسس الإسكندرية الذي تسنم منزله فريدة خاصة به، ظل على مدى أكثر من ألفي عام تحاك القصص والأساطير حول اسمه، وتغلغلت سيرته وأعماله في ملاحم البطولة الفذة في مشارق الأرض ومغاربها، حتى أصبح أسطورة تُروى وتترد بتعاقب الأجيال والعصور. ولم تقتصر عبقرية الإسكندر على جهوده وفتوحاته، بل كان من الناحية الفكرية سابقًا لعصره بما أوتي من قوة البصيرة وسعة الإدراك، وبما أفاد من دراسات في الفلسفة والحكمة والأدب وعلوم الحيوان والنبات والفلك والجغرافيا في مطلع حياته، وكانت مقدرته كسياسي بارع، وحاكم عظيم، لا تقل عن مقدرته في تحريك الجيوش وقيادة المعارك وتحقيق الانتصارات الباهرة.
كان زائر الإسكندرية في القرن الثامن عشر لا يمكنه أن يتخيل أن الإسكندرية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ستصبح مدينة عالمية تكاد تقترب من مكانتها في سالف الزمان. فقد شهدت المدينة ازدهارًا هائلاً في عهد الخديوي إسماعيل، الذي كان يحلم بحكم إمبراطورية عصرية على ضفاف النيل تمتد ما بين الإسكندرية والخرطوم، وتعرض لنا في ذلك العصر مشهدًا صاخبًا فاقع الألوان لمدينة تجمع خليطًا من الأجناس؛ تجارًا ومغامرين وسائحين، أوربيون، مصريين، أتراكًا، شوام، أفارقة، أمريكان، يكتظ بهم الميناء وطرقات المدينة، يتدفقون وينحسرون بلا انقطاع، ولا يستقرون كالموج.
يقدم هذا الكتاب (الصادر في سبتمبر 2015 عن دار الهلال) صورة متعددة الجوانب، متنوعة الدلالات عن خلود الإسكندرية في ذاكرة التاريخ، والتي كانت مركزًا للقاء أعظم حضارتين؛ حضارة مصر القديمة، وحضارة اليونان. هي مدينة الجمال والنبل والعظمة التي عاشت منارة للحضارة وتبوأت أسمى مكانة للفن والثقافة، لم يتأثر بها المصريون فقط، بل أحبها وخلدها كُتَّاب وأدباء ورحالة وشعراء أجانب. وإذا كان لكل مدينة شخصيتها وزمانها، فإن لمدينة الإسكندرية أزمنة وشخصيات، إنها مدينة ذات “هوية خاصة” صنعت أزمنة وصنعت حضارة، وفيها انصهرت ثقافات، وبداخلها تفاعلت حضارات، وبقيت الإسكندرية “المدينة الذهبية”، ولم يبق من عزها المندثر إلا الأسماء وبقايا شواهد المجد القديم.
أدباء سحرتهم الإسكندرية
تتشكل إبداعات أدباءنا كلوحات فنية على شراع مركب، وتنام عروس البحر على شراع مركب آخر، وهم في رحيلهم المغامر بحثًا عن واقع الإسكندرية ومحاولة تجميع ملامح صورة لمدينة الزمن المفقود، من خلال ارتيادهم لشوارعها وساحاتها وأسواقها، مساجدها وكنائسها، باراتها ومراسمها، موالدها الإسلامية والمسيحية، شاطئ البحر ونسمات الصيف، وكل صخب الحياة متعدد اللهجات والألوان، ربما يكون كل ذلك محطات لالتقاط الأنفاس والتزود بشحنات إبداعية تنفث الروح والدفء في شخصيات رواياتهم، تتوهج في خيالهم بإيقاعات سكندرية.
والمدينة ليس حاضرها بأقل شهرة من ماضيها العريق، فهي المدينة التي ولد فيها: عبد الله النديم، وتوفيق الحكيم، وسيد درويش، وبيرم التونسي، والشيخ سلامة حجازي… وغيرهم عاشوا فيها وتأثروا بها وأحبوها، كما أنها أخرجت فنانين عباقرة: محمود سعيد، ومحمد ناجي.. خلدوا مناظرها وبناتها وصياديها، وصارت لوحاتهم وقصائد شعرائها وموسيقى فنانيها وإبداعات أدباءها تسجيلاً واقعيًا لعظمة هذه المدينة.
فقد كان أديب نوبل “نجيب محفوظ” محبًا للإسكندرية، وهام بها عشقًا، وتجلى هذا العشق في روايتيه: “السمان والخريف”، و”ميرامار”، وقد استوعب تمامًا التحولات التي حدثت للمدينة، في أسلوب أدبي شديد الرقي يكاد يرقى إلى مستوى الشعر أحيانًا، ففي “ميرامار”: “الإسكندرية أخيرًا.. قطر الندى.. نفثة السحاب البيضاء، مهبط الشعاع المغسول بماء السماء، وقلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع”.!
دفتر الذكريات الأوربية
حرص الفنان الرحالة الفرنسي “مونتبارد” على تقديم سجل شامل للتعرف على مصر من خلال ملاحظاته الاجتماعية والسياسية والجغرافية، في إطار منهج وصفي وعلمي، فلم يجنح إلى الخيال وهو يقدم صورًا من مصر إلى القُرّاء الأوربيون، وهذا ما يتمثل لنا من خلال وصفه لجولة في شوارع الإسكندرية بصحبة ثلاثة من رفاقه (جاك، أونزيم، وكيراديك). حيث يقول د.كيراديك: “الإسكندرية لم تكن العاصمة الرسمية للدولة، فهي العاصمة الحقيقة بلا جدال، فهي مركز لفروع وعمليات البنوك العالمية وكبرى بيوت التجارة والمال.. لكن وللأسف فهي أيضًا مركز جذب للمغامرين والعابثين والأفاقين واللصوص.. وشهرة المدينة هي الشيء الوحيد الذي لم يستطيعوا سرقته”.
أما الروائي البريطاني الشهير “ادجار مورجان فورستر”، فقد أقام في الإسكندرية مشاركًا في الهيئة الدولية للصليب الأحمر (1915 – 1919)، وكتب خلال هذه الفترة كتاب “الإسكندرية: تاريخ ودليل”، في محاولة لتقديم معالمها من خلال ماضيها عبر 2250 سنة منذ إنشائها حتى الحرب العالمية الأولى، حيث يقول: “أنتم المصريين، لا تقدرون قيمة الإسكندرية، إنكم تنظرون إليها باعتبارها مجرد مصيف ذي شواطئ جميلة.. هذه هي إسكندريتكم!.. ولكن مدينتي مختلفة، إنها الإسكندر الأكبر وفنار فاروس.. إنها المكتبة العظيمة التي كانت مركزًا للعلوم والفنون، عندما كانت الإسكندرية تصدر المعرفة إلى أوربا والعالم أجمع”. وذلك يقابل ما كتبه البروفيسور “روبير البيرت” (جامعة بروفنس) “هي كذلك الإسكندرية، مثل بعض مدن العالم النادرة، فلا يمكن أن نذهب إليها اليوم دون أن نتزود ببعض الذكريات، ودن أن تتفاعل بداخلنا أحلام العظمة القديمة التي تتولد من ذكر اسمها”.
المدينة الكوزموبوليتانية
“الإسكندرية: الماضي، الحاضر، المستقبل” كتاب صغير الحجم رائع في مادته، تحدث فيه الكاتب والأديب الفرنسي عاشق المدن المتوسطية “جان امبيريور” عن تأسيس مدينة الإسكندرية وأهم معالمها، وسكانها وأنشطتها التجارية والصناعية. وقد ذكر فيه ترام الرمل، فيقول: “ذلك القطار الصغير ذي الطابقين بعجلاته الحديدية، لا يعتبره أهل الإسكندرية مجرد وسيلة مواصلات، بل حالة يتعايش معها أهل المدينة، وعلى الرغم من ما يصدر عنه من ضوضاء تهدر في كل اتجاه، إلا أن أحدًا لم يشكو من ضجيجه، فقد أصبح في النهاية جزءًا مهمًا من حياة الناس والمدينة”.
وقد عبر البروفيسور “يانا كاكيس” عن مشاعره تجاه صور ومشاهد من الحياة الواقعية للمدينة في دراسته “الإسكندرية: مجتمع مشرقي”، حيث يقول: “الإسكندرية كانت مصرية وجماعية، فسيفسائية اللغات والأديان، ومدافن الشاطبي تشهد على كثرتهم، وبالتجول في مدينة الأموات بالشاطبي قديمًا قد يستطيع الأوربي أن يدرس علم الاجتماع، والعقلية السكندرية، فهي مسجلة على شواهد القبور!”. “هنا تكمن أصالة الإسكندرية وعراقتها، ولم يكن ذلك نتيجة لعالمية الفكر أو المواطن، بل أعمق من ذلك بكثير، وهو ما يجعل من الإسكندرية مختلفة، بشخصيتها المتميزة، في هذه البوتقة التي صهرت ثقافات صُنعت من التقاء اللغات والأديان.. فصنعت منها مدينة أسطورية، ربما لم تكن إلا حادثًا في زمن انقضى، وقد تكون حلمًا أو تخيلات، لكن مدينة الزمن المفقود تبدو في صور قديمة جدًا وكأنها تنسج خيوط حلم رائع”.
الكتاب قدم نصوص أوروبية مختارة بدقة لتشكل بانوراما للإسكندرية في عصرها الذهبي (1870 – 1952)، المدينة التي حلم بها “الإسكندر الأكبر”، وأعاد مجدها ورونقها “الخديوي اسماعيل باشا”، مدينة لها خصوصيتها وهويتها وجاذبيتها، صنعت أزمنة وصنعت حضارات، وهي مدينة تختلف، فقد سحرت كل مَنْ رحل إليها في كل عصورها، حيث الخيال والبحر والفن والجمال. وقد نجح الكاتب عبر (216 صفحة) في تقديم صور مشرقة لماض عريق نابض بالدفء والحياة والعظمة.
_____
*كاتب وأكاديمي من مصر