*لطفية الدليمي
أثارت الأجزاء الثلاثة من سلسلة مقالاتي المعنونة ( خوارزميات للحياة ) الكثير من النقاشات الجميلة والممتعة من جانب القرّاء الشغوفين الذين رأوا في فكرة ( الخوارزميات ) موضوعة تبعث على التفكّر الجاد ، كما دفعني الأمر ذاته إلى محاولة إثراء الموضوع بمثال تطبيقي يوظّف فكرة الخوارزميات المضادة للجنون الطاغي في أغلب جوانب حياتنا المعاصرة ، وأشير هنا على نحو التخصيص إلى الجنون المصنوع صناعة خبيثة- ذلك الجنون المبرمج الذي اكتسح حياة العراقيين وجعلها تنزلق نحو قعر مستنقع آسن من الفساد والمغالبة التي استشرت كالطاعون بين الناس ، وهي المغالبة الجنونية ذاتها التي جعلت حيتان الفساد الكبيرة الجشعة تتقاتل فيما بينها على أموال البلد مثلما تتقاتل الكواسرعلى الرمم ، وهي حالة مريعة تدعو لليأس والحزن انتهت بالعراق ليحلّ في ذيل قائمة الدول الفاشلة والدول الأدنى ملاءمة لحياة انسانية آمنة والأكثر فساداً وتخلفا في عالم اليوم !! .
تُعد فكرة الجنون ونظيراتها من المفهومات التي تشكل فضاء اشتغال علم النفس السريري Psychiatry – واحدة من أكثر المفاهيم المستعصية على الإحالة لمرجعيات محددة ، فلطالما تغيرت هذه المرجعيات تغيراً سريعاً معروفاً لكل من له بعض معرفة – أو حتى محض رغبة غير مهنية – في متابعة مباحث علم النفس ، والسريري منه بخاصة ، ويكفي أن أشير إلى أن مرجعيات الأمراض النفسية بعامة ، والذهانية Psychotic بتحديد أكبر ، قد تمت إحالتها إلى عوامل فيزيائية تعمل على المستوى الجزيئي الدقيق بعد أن تم تضييق المساحة الوجدانية التي كانت شائعة في وصف هذه الإضطرابات حتى وقت ليس ببعيد ، ومن يتفحص المرجع الأساسي لتوصيف وتشخيص الأمراض النفسية الذي تعتمده الجمعية الأمريكية للطب النفسي السريري المسمى DSM سيعرف بالتأكيد طبيعة هذا النزوع باتجاه العمل على المسببات الفيزيائية للاضطرابات النفسية ( وفي مقدمتها النواقل العصبية ) . تضمّ التمظهرات الإكلينيكية للجنون طيفاً واسعاً من الأعراض والسلوكيات التي تسم كل اضطراب يوصف في مفهوم العامة بكونه ( جنوناً ) ، مع أن المرجعيات المعتمدة في علم النفس السريري لا تشير ابداً إلى كلمة الجنون Madness أو رديفتها ذات المحمول الدرامي التأريخي الأكبر Insanity – فتلك مفردات لا وجود لها في تلك المرجعيات التي لاترى فيها دلالة مهنية محددة في هذا المبحث الذي يعج بالأمثلة المذهلة في مواضع عديدة ، فقد تصعب على البعض معرفة أن كثيراً من الأمراض الجسدية تترافق مع أعراض ملازمة للكثير من الاضطرابات النفسية والعقلية ، والأمثلة في هذا كثيرة ، منها مثلا أن أمراضاً شائعة مثل الإنفلونزا قد ترافقها حالة من الهذيان !! وكثيراً ماتحفل الأعمال الروائية بإشارات دقيقة إلى اضطرابات من هذا النوع أجاد في توصيفها روائيون بارعون في حرفتهم الروائية ، كما أن الأدبيات الشكسبيرية تحفل هي الأخرى بإشارات غاية في الذكاء والبراعة إلى جوانب دقيقة في السايكولوجيا البشرية . وهناك جوانب أخرى ، غير الجوانب الاكلينكية ، رافقت موضوعة ( الجنون ) منذ أزمان بعيدة في المستويات الإجتماعية والقانونية والفلسفية ، وربما كان ( ميشيل فوكو ) أبرز فيلسوف معاصر تناول ( تأريخ الجنون ) مع إحالات كثيرة إلى علاقة الجنون بالسلطة والقانون واللغة والتراتبيات الجتماعية .
ولكن بعيداً عن المرجعيات الاكلينيكية والقانونية والاجتماعية ، هناك من يرى في الجنون اختلالاً هيكلياً في علاقتنا مع الرابطة الكونية التي تضم جميع الكائنات ( بشرية وغير بشرية ) كما تضم الأم وليدها الرضيع ، وإن هذا الاختلال هو نتيجة انعدام في الرؤية وفساد في الروح يفضيان إلى ذبول بطيء وراسخ في عوامل النشوة الداخلية التي تُعد أثمن ما نحوزه في رأسمالنا الوجودي المحدد بهيكل فيزيائي محكوم بمحدوديات قامعة : فالجسد بمثابة سجن ، والمدينة أقرب ماتكون إلى معسكر احتجاز،،، ولطالما رأى الكثيرون من الفلاسفة والرؤيويين أن الأقوام التي نعدها (بدائية ) أكثر حكمة وأبعد قدرة في استقصاء عوامل السعادة والشقاء وسبك الخبرة المتحصلة من هذا الاستقصاء في صيغة حكواتيّة أخاذة شكّلت معظم التراث الحي للسرديات الشعبية التي تتوارثها الشعوب.
كنت دوما أرى الجنون نتاج قسوة الروح وغلظة القلب وتحجر الضمير، وهنا لا أحكي عن جنون هو نتاج أمراض دماغية عضوية مشخصة ، بل أحكي عن جنون مقترن باكتئاب غير منتج ( هناك اكتئاب منتج وباعث على الكشف الخارق ) ترافقه ظلمة النفس ووهن الروح وفقدان العدّة القتالية في الحياة – بالمعنى النبيل للعبارة – بما يفضي إلى انحسار بواعث الدهشة ثم التمركز على أنوية غبية تقود إلى العمى الرؤيوي المطبق ، لكن التقصي والقراءة اليومية على مدى عقود مثقلة بالمرارات والخيبات ( كما المسرّات ) – مع خبرة لم يلوثها التغالب على الاقتناء المادي – أبانت لي أن قسوة الروح وغلظة القلب وتحجرالضمير لدى البشر إن هي الا أعراض لعطب جوهري يفوق ماعداه : ذاك هو السعي القاتل نحو تكديس الأموال والاقتناء المهووس لكل ماهو مادي ،،، تلك خبرة ثمينة لا تمت بصلةٍ الى أية مواضعات دينية أو أيديولوجية معلبة تبشر بنبل الفقر وصلاح الناس ذوي الكرم والقانعين بالقليل اللازم لإدامة العيش ، لكن تلك المواضعات لا تلامس شغاف القلب ولا ترشح من نضح تجربة إنسانية ولا تفتح لنا كنوز الدفائن والمغارات السحرية لفهم الكثير من أسرار الحياة الحقيقية مثلما يفعل البدائيون الذين أراهم كائنات برية حرة استعصت على الترويض الذي يقتل جموح الروح ، ويشارك البدائيين بعضٌ من الموهوبين في امتلاك رؤية كونية يسندها ضمير منشغل بالهّم الانساني أينما وجد ،المخرج ( توم شادياك مثالاً ) ،،، هؤلاء جميعاً وضعوا قوانين للسعادة في هيئة خوارزميات بسيطة لها سحر القانون الطبيعي وصياغته المبهرة ، ونلمح شيئاً من هذا السحر في العبارات التي وضعتها في مفتتح الموضوع وردت في سياق حوار فلم أخرجه ( توم شادياك ) بعد أن عانى من مضاعفات حادثة كادت تودي بحياته لكنها صارت بداية مسيرة جديدة في حياته مفعمة برؤية وبصيرة لم يكن الرجل ليتصور يوماً أنه سينتهي إليها بعد أن غدا مخرجاً فاحش الثراء بالمقاييس الهوليودية الطاغية.
لكن، دعونا نتساءل : لماذا يرتبط السعي إلى مزيد من الثروات بشكل من أشكال الجنون الجمعي القاتل والطاغي في عصرنا هذا ؟ يبدو لي أن صناعة الجنون هذه تتخلق من تداعيات لعبة قاتلة مفتوحة النهايات تنشأ من نمط الحياة البشرية المعاصرة المصممة على أساس أن الحياة البشرية لعبة قتالية أقرب إلى ( دار حرب ) على وفق التوصيفات الفقهية السائدة ؛ الأمر الذي يفضي إلى نشأة نزعات تنافسية طاغية تميل إلى تعظيم الأرباح المتحصلة من هذه اللعبة القاتلة مع غض النظر المتعمد عن التداعيات الخطيرة الناجمة عنها . وفي العادة يقود النموذج التنافسي – لا التشاركي – إلى تمركز أنويٍ متعاظم ينتهي إلى انتفاخ ذاتي يطفئ مكامن البهجة والاستمتاع بالقليل الذي بين أيدينا : لأن الجسد – والروح التي تعضّده – مستنفران دوماً في حالة طوارئ متواصلة استجابة لظروف المعركة الحاسمة التي ترمي إلى اقتطاع حصة أعظم من الكعكة الأرضية ( النموذج التنافسي يرى الأرض محض غنيمة، لا مستودعاً يعج بالأسرار والحكايات والخبرات البدائية المعتقة ) . يقود النموذج التنافسي هذا إلى الدخول في نفق مرعب لا نهاية له ويفضي إلى تدمير ممنهج وبطيء وثابت للذات – فالكائن البشري وسائر الكائنات الأخرى قد صُمّمت جينياً وفق تصميم كوني هائل الذكاء قائم على أساس المشاركة والتواصل ، وأن هذا التأهيل الجيني وهو نتاج عملية تطورية ممتدة لملايين الأعوام -قد تم سحقه والاعتداء الصارخ عليه بفعل خبيث من أخطبوط ثلاثي الأذرع : سياسي ، اقتصادي ، اجتماعي يتحرك بمشيئة واضعي نظريات لم يمر على ظهورها اكثر من قرنين من الزمان . يبدو النموذج التنافسي هذا شديد الغباوة بالمقارنة مع الخبرة الخوارزمية المعتقة لأمنا الرؤوم : الطبيعة مضافة إليها خبرة الأقوام البرية البدائية التي اعتادت التعايش المسالم معها على مبدأ المشاركة والتواصل الحميمي، ولا أحسب أن العتاد التنافسي المستحدث سيصمد طويلاً أمام الخبرة الجينية المتراكمة فائقة الذكاء – فالاشتغال بما يعاكس توقنا الطبيعي وتصميمنا الأساسي سيفضي حتماً إلى تشوهات عملية خطيرة ستنعكس في هيئة أمراض نفس-جسدية Psychosomatic مزمنة هي بعض ملامح حضارتنا التنافسية المتغوّلة .
هنا لابد من تأشير بضع ملاحظات أساسية :-
من الخطل تماماً النظر إلى موضوعة الجنون الجمعي الطاغي من ثقب باب اللاهوت أو الأيديولوجيا؛ إذ ليس المطلوب الإحالة الى العمل على ضوء وصية لاهوتية أو نموذج أيديولوجي جاهز، ولا ينبغي انصراف الذهن إلى إدراج هذه الموضوعة في خانة تعضيد الأطروحات التبسيطية السائدة في نقد النموذج الرأسمالي والتبشير بقرب سقوطه الأبدي عقب أية كارثة من الكوارث المالية التي تتخذ منحى دورياً معلوماً في الاقتصاد الرأسمالي ، وكذلك اعتبار هذا النظام المسؤول الأوحد عن الاغتراب المفضي الى الجنون الجمعي في عالمنا المعاصر. إن الإنصاف والمروءة تقتضي القول أن الرأسمالية ألوان شتى تتباين حسب شعوبها ، وأنها في المجمل أشبعت شعوبها ووفرت لها سبل التعليم والتطبيب المجانيين في الغالب مع توفير مظلة من الحماية الاجتماعية مثلما هو الأمر مع الرأسمالية الإسكندنافية المعقلنة ( مع بعض استثناء للنموذج الرأسمالي الأمريكي النازع نحو التطرّف ) ، فالموضوعة هنا لا تختص بنموذج سياسي – اقتصادي بل تتناول النزوع الفرداني في أكثر جوانبه مساساً بسلوك الإنسان تجاه أخيه الإنسان وأمه الطبيعة .
قد يتخذ البعض من النموذج التنافسي حجة في أنه هو المعوّل عليه لخلق بيئة تنافسية جاذبة لأرباب العمل وصانعة للحوافز وتعزيز الإنجاز . هذه المواضعة دقيقة في مقايستها ، لكن الخطل فيها يكمن في موضعين : الاول هو أن الحوافز في النموذج التنافسي عادة ما يراد منها الدفع باتجاه إنجاز يحسب نجاحه على أساس عوائده المادية حصراً ، وهنا ندخل في نفق لعبة المراكمة المادية القاتلة ، والموضع الثاني : غالباً ما يفوت هؤلاء أنّ هناك حوافز غير مادية ربما كان لها دافع أكبر باتجاه الإنجاز – وتعود القضية بأكملها الى وجهة نظرنا عما نراه ونعدّه ( إنجازاً ) بالمعايير المهنية . يمكن القول أن النموذج التشاركي للحياة يحمل في خزينه وفرة من الحوافز الخاصة التي تثري الحياة البشرية ولاتقود إلى التدمير المنظم للإنسان والبيئة .
يملك الغربيون فضيلة التصريح بما يعانونه أو يعدّونه معضلة وجودية : تلك الميزة الفائقة التي تفتقدها بيئات كثيرة تزيّن العاهات وتحسبها فضائل وامتيازات كالبيئتين الشرق أوسطية والأفريقية؛ فقد عرف الغربيون ولبضعة عقود خلت أهمية أن لايكون كل مانقوم به مأجورا Paid – أي مدفوع الثمن – وترجموا معرفتهم هذه في هيئة مؤسسات غير ربحية تعمل على الارتقاء بنوعية الحياة التشاركية بعيداً عن النموذج التنافسي وقوانينه الحاكمة.
_________
*المدى