*علي حسين
(1)
“لطالما اعتبرتُ الكتب كائنات حيّة بعد أن صادفت مؤلفين جددَ غيّروا حياتي قليلا، فبينما أمرّ بفترة ارتباك ما، أبحث عن شيء لا أستطيع تحديده، إذا بكتاب معيّن يظهر، ويتقدم مني كما يفعل صديق، يحمل بين دفّتيه الأسئلة والأجوبة التي أُفتّش عنها”
الممثلة ليف أولمان من مذكراتها ” أتغير”
وانا أتصفح عدد الأمس من صحيفة الأهرام المصرية ، وقعت عيني على خبر صغير : “الهيئة المصرية للكتاب تصدر طبعة جديدة من الأعمال الكاملة للراحل كمال الملاخ” . ولمن لايعرف صاحب الاسم أقول ، انه كان ظاهرة في الصحافة والثقافة العربية . وقد قيل عنه، انه جعل القراء يقرأون صحيفة الأهرام من الصفحة الأخيرة إلى الأولى.
كان الملاخ ، رغم حصوله على شهادة الماجستير بالاثار ، وارتباط اسمه باكتشاف مراكب الشمس الفرعونية وبترميم ابو الهول ، يعشق الصحافة حتى انه تفرغ لها واستخدم ثقافته المتنوعة في الادب والتشكيل والموسيقى والسينما ليقدمها الى القارئ . وفي الصفحة الأخيرة من الأهرام ، أسس زاوية يومية تتوسط الصفحة أسماها “من غير عنوان” ، وكان يخط العنوان الرئيس بيده ، وايضا يرسم توقيعه المميز الذي يضعه في آخر الزاوية.
لا اتذكر عدد الكتب التي كتبها ، ولكني أعرف انه كان اسرع كاتب عربي ، فقد اصدر كتاباً عن بيكاسو “المليونير الصعلوك” بعد اقل من شهر على رحيله ، وفعل هذا مع طه حسين في كتابه “قاهر الظلام” الذي تحول الى فيلم سينمائي ، ومازح توفيق الحكيم اثناء حياته في كتاب مثير بعنوان “الحكيم بخيلاً” ، واصدر سلسلة “صالون من ورق” ، وكتب عن بريجيت باردو كتاباً في نفس الوقت الذي كتب فيه عن توت عنخ امون .
ويقال انه حين يدخل صباحاً الى غرفته في الأهرام ، يسألونه ما هو الجديد الذي قرأه ، وكم كتاباً اضيف الى مكتبته؟ وكان يجيبهم : ” ما زلت تلميذاً في مدرسة القراءة ” . ويذكر صديقه الحميم انيس منصور ان الملاخ كان شغوفاً بالقراءة وكان يقرأ بلغات كثيرة، ويسافر إلى بلدان كثيرة، وكان عجيب الاهتمامات: من الآثار ، إلى السينما ، إلى الأدب ومعركته مع العقاد ، ولا ينسى منصور ان يخبرنا بأن الملاخ مات وفي بيته 60 الف كتاب.
*********
في مقدمته لكتاب “المليونير الصعلوك” يكتب الملاخ : ” كنت انوي الكتابة عن صعلوك آخر لمع في دنيا المال في القرن العشرين ، واعني به أوناسيس ملك ناقلات البترول وخاطف قلب زوجة اشهر رئيس اميركي جورج كنيدي ، وكنت قد قابلته في فندق سمير اميس مرات عديدة ، وقابلت جاكلين كنيدي قبل ان تصبح سيدة البيت الابيض ، كانت آنذاك الفتاة ذات القوام الممشوق ، و لا اريد ان أروح وأتيه بعيدا عن بيكاسو فأثناء تحضير كتاب اوناسيس ، مات العملاق الصغير فجأة بلا مقدمات ، ووجدتني امسك القلم لأبدأ بالعنوان : المليونير الصعلوك”.
*********
في يوم حار من عام 1928 التقى ، على مأدبة غداء في ضواحي باريس ، بابلو بيكاسو وسلفادور دالي ، اللذان سيصبحان أشهر رسامي القرن العشرين . كان حاضرا أيضا الروسي شاجال ، الذي سوف يصبح بدوره احد معلمي الرسم الحديث . لم يكن شاغال قد سمع بدالي، لكنه يعرف بيكاسو جيدا . كان اسم شاغال قد اخذ يشتهر، وبخاصة حين كان الحديث يتعلق بتأثيره على الموجة الجديدة من الفن والشعر السوفيتي . وفي باريس التي وصلها عام 1922 بدأ ،وبتكليف من احد تجار اللوحات، برسم رائعة غوغول “النفوس الميتة” ، التي ستصبح بذلك واحدة من ايقونات الفن الحديث تجعل متحف ليننغراد آنذاك يصر على اقتنائها برغم خلاف شاغال مع النظام السوفيتي في ذلك الوقت . اما دالي فكان في الثالثة والعشرين من عمره يحمل أفكاراً غريبة ، حتى انه قال لبيكاسو يوما :”لكي تستطيع ان ترسم يجب ان تكون مجنونا” ، وكان يرى في اعمال شاغال أنها قليلة الأهمية ، ويهمس في اذن بيكاسو وهم يتناولون الغداء: ما بال هذا الرجل معجب بالبقر هل يعتقد ان احدا سيمنحة وساماً على مثل هذه الرسوم . بعد مائدة الغداء الثلاثية هذه بأعوام ، يقول دالي لكاتب سيرته حين يسأله : لماذا قبل ان يأخد وساما من الجنرال فرانكو ، ألا يسبب له ذلك إحراجاً ؟ ، فيجيب : على العكس ان الملتزمين هم الخدم وانا اريد ان أبقى سيداً على الدوام . وحين يقول له : إنك بذلك تنسى هؤلاء المثقفين ، والذين قتلوا في سبيل أفكارهم ، تنسى صديقك لوركا ، فيكون جوابه : “ياسيدي انا بدأت خائناً لطبقتي التي هي البرجوازية فقد آمنت بأقصى اليمين ، فأنا من انصار الملكية المطلقة ، وانا كذلك فوضوي ، لذلك فأنا اقبل اي وسام من الاتحاد السوفيتي او الصين ، اعطني إياه وساقبله على الفور” ، وحين يقول له المحرر : اذن انت راضٍ بدور الخائن ، يجيب وهو يضحك : نعم لأنني اعارض بيكاسو في كل شيء “
*********
في صيف عام 1923 ، يقف رجل نحيل رثّ الثياب في محطة قطار باريس وفي يده حقيبة جلد صغيرة لاتحوي سوى قميصين وبنطال عتيق ، كان مارك شاغال قد ترك وراءه في بلدته ” فتبسك ” زوجته التي ستلحق به وآمالاً وأحلاماً كان يتمنى ان يحققها لمواطنيه. فالشيوعي المتحمس ، والذي كان يحدوه الأمل في مستقبل افضل ، لطالما شوهد وهو ينادي بأفكار الاشتراكية ، غير ان ردة فعل زملائه من الفنانين كانت الاحتجاج على الجديد في مجال الرسم والذي جاء مخيباً لآمالهم ، فإذا بهم يتعجبون ويتساءلون ترى ما علاقة البقرة الخضراء التي يرسمها بما نادى به ماركس وانجلز ، كان في انتظاره على رصيف المحطة صديقة “فكتور مكلر” الذي سبقه بعام الى مدينة النور، وسيتقاسم معه غرفته الفقيرة ، وهناك سيعيد رسم بقراته بألوانها الخضراء ، وستصبح هذه الرسوم فيما بعد علامة من علامات باريس حين يكلفة وزير الثقافة اندريه مالرو بإعادة ترميم اوبرا باريس التي طالتها نيران الطائرات الالمانية في الحرب العالمية الثانية . وللبقر في حياة شاغال حكاية طريفة يرويها الشاعر رفائيل البرتي في مذكرته “الغابة الضائعة” ، والتي ترجمتها الى العربية باهرة رفعت ، يقول البرتي : “كانت الزيارة التي قمت بها الى مارك شاغال في منزله قد انطبعت في ذاكرتي ، حين دخلت منزله فوجئنا لأن بقرة هي التي فتحت الباب لنا ، وفي داخل المنزل كانت الأبقار تنتشر في كل الاتجاهات ، فوق الخزانات ، فوق الطاولات ، فوق الكراسي ، بين الكتب.”
– ولكن ياشاغال ان منزلك هذا ليس سوى اسطبل .. وخطر ببالي فجأة انه راع أكثر منه رساماً.
– علينا ان نحب الأبقار ، قال لي ، واضاف :”الكون بالنسبة لي مأهول بها ، انظروا اذا ما فتحت النافذة ليلاً فإني أراها فوق سقوف منازل الجيران ، حتى قمر روسيا المتجمد يكتظ هو الآخر بالأبقار.”
– رحت انظر اليه وهو يتحدث بحماسة عن الابقار فأيقنت ان أبقار شاغال تنضج انسانية وحكمة لأنها تعرف الكثير عن السماء والقمر والنجوم”
*********
استيقظَ في العاشرة صباحا ، لم يقوَ على القيام من سريره ، شعر بتعب مفاجئ وغريب ، تذكر سنيّ حياته ويوم وصوله الى باريس معدماً وايام الحرمان ، وكيف حاول ذات مرة ان يبيع لوحة بدولار واحد ليتغدى به ، لكن لا احد يتقدم لشرائها ، فعاد الى غرفته الرطبة تحت وابل من المطر ، واصيبت اللوحة بالبلل والتلف. وتدور الايام ، وتباع اللوحة نفسها بنصف مليون دولار ، دخلت عليه زوجته فرأت الحيرة في عينيه الصغيرتين ، ولا حظت ان لونه قد تغير ، هرولت الى الخارج تكاد تصرخ ، تستغيث ، أصبعها يدير قرص الهاتف وهي ترتعش . على الجانب الآخر كان الطبيب الخاص ، يأتي مسرعا ، كل من في القصر الكبير يهرول ، الابواب مشرعة تدخل منها نسائم نيسان ، الكلب يدس رأسه بين قدميه الأماميتين ، كان يرى الجزع والخوف في العيون ، كانت ماريا وهي تمسك سماعة الهاتف تعلم ان بيكاسو لم يعد مواطنا يملك حياته الخاصة وانما هو مُلك لجمهور كبير ، تتذكر انها كانت تقود دراجتها ذات يوم حين توقفت عند تقاطع كان فيه كشك لبيع الصحف ، وحين تطلعت شاهدت وجه بيكاسو يحدق من غلاف مجلة لايف الشهيرة وقد استقرت حمامته المفضلة على كتفه ، صدمتها الصورة كثيرا ، عندها ادركت ان حبيبها بدأ يهرب بعيدا بعيدا . الطبيب يقول انه قد وصل بعد فوات الأوان .. لقد توفق قلب اشهر فناني القرن العشرين . طار الخبر سريعا ، قطع التلفزيون الفرنسي برامجه ، ليخرج الرئيس جورج بومبيدو في وقت متأخر من الليل ومن على شاشة التلفاز ، ينعى للأمة الفرنسية غياب اكبر عظمائها .. لقد مات بابلو .
*********
في سيرته الذاتية التي نشرتها مجلة “وجهات نظر” على حلقات، يكتب المخرج الفرنسي روجيه فاديم ، ان بريجيت اتصلت به بعد منتصف الليل وهي تصرخ “فاديم بابلو رحل” وكان صوتها مختنقاً بالعبرات ، لم يدرك المخرج عن اي بابلو تتحدث حتى شاهد في التلفاز صورة العبقري ، وخبرا يقول رحل بابلو بيكاسو .. كانت بريجيت باردو صغيرة حين تعرفت على الرسام الشهير ، وظلت تذهب الى مرسمهِ ، كلما سنحت لها الفرصة . تقول في لقاء أُجري معها العام الماضي : “في مرحلة ما كنت ارى وجهي في معظم لوحات بيكاسو ، صحيح انه لم يتخذني موديلاً ، وكنت اتمنى ذلك ، لكنه كان يضع بعضاً من ملامحي في لوحاته الغريبة “.
يذكر الملاح في “المليونير الصعلوك” ان مطعماً شهيراً جمع بيكاسو وبريجيت باردو ورئيس وزراء فرنسا عام 1950 هنري كويويل ، وكان كل منهم يجلس على طاولة بين اصحابة ، واراد رئيس الوزراء ان يدعو باردو الى مائدته في نفس اللحظة التي اشار لها بيكاسو ان تنضم اليهم ، فاختارت ان تذهب باتجاه طاولة الرسام القصير، وتركت رئيس الوزراء حائرا ، فأرسل اليها ورقة صغيرة فيها عتاب رقيق لأنها احرجته أمام ضيوفه ، فردت عليه بنفس الورقة ، ان فرنسا مر عليها الكثير من رؤساء الوزراء ، لكن هناك بيكاسو واحد لن يتكرر في تاريخها “
*********
حين عرض سلفادور دالي لوحته، الشهيرة “إلحاح الذاكرة” عام 1931، رفض أن يفسرها ، وكان يحيل السائلين الى معرفة تفاصيل حياته ، فهو يتذكر ان أمه اخذته وهو صغير الى طبيب ليفحص فمه حيث كان يعاني من التهابات ، وحين طلب منه الطبيب أن يفتح فمه ويريه لسانه ، لم يفهم المعنى جيدا ، كان يعتقد ان الطبيب يحدثه عن ساعات سائلة ، امتزجت هذه العبارة بخياله ، حتى انه قرر ان لا تخلو معظم لوحاته من الساعات ، لكن الباحثين رأوا أن اللوحة تنبئ بقدوم عصر الاسلحة الفتاكة ، التي ستنسف الكون والزمن وتحيلنا الى الارض اليباب التي تنبأ بها الشاعر اليوت يوماً . بعد ذلك بسنوات ، وبعد أن تحققت نبوءة الاسلحة الفتاكة وألقت اميركا قنبلتها الذرية على هيروشيما، يعود دالي ليكمل الجزء الثاني من اللوحة وبعنوان “تفكك إلحاح الذاكرة” ، في ذلك الوقت كان مواطنه الآخر بيكاسو ، قد هزه ما حدث في قرية جورنيكا الاسبانية : 2000 شخص يبادون وقرية تدمر بأكملها وتسوى مع الارض ، يدخل مرسمه الباريسي ليرسم ، يحلق بالألم ، عدة اشهر وهو يخطط ويرسم لتظهر بعد ذلك اكبر لوحة رسمها في حياته ، بالأسود والأبيض فقط ، تخرج المأساة أشلاء وأرجلا وأيدي مقطعة ، رأس حصان يحتضر في سواد الليل ، صرخات مكبوتة ، أصابع متشنجة ، انها بقايا احلام الناس بالأمن والسلام ، يرفض بيكاسو ان يوقع اللوحة او ان يضع لها تاريخا ، فالمأساة لا يمكن ان تختصر بساعات وأيام وبتوقيع رسام . في مكان آخر كان شاغال يرسم الحرب ، يلونها ، الام والاب ومعهما طفلهما الرضيع ، والثور الابيض والمجاعة ومحاولات الفرار من مصير مفجع ، كان شاغال في ذلك الوقت قد بلغ من الشهرة ما كان ينسيه سنوات البؤس الفقر ، لكن ذاكرة الحرب أقوى من المال والمجد والشهرة .
*********
قال لطبيبه وهو يحذره من الإفراط في التدخين والشرب : ” لقد تعلمت الدرس من سيرفانتس ، فأعظم شعراء اسبانيا مات فقيراً معدماً ، ولهذا أريد ان اموت وانا اتمتع بكل اصناف الحياة ومعها الملايين بالطبع .. قال لي يوما بيكاسو : لكي تكون عبقرياً ، يجب ان تصبح مليونيراً” .. يتذكر انه كان يرسل كل سنة بطاقة بريدية الى غريمة الاسباني القصير يذكره فيها بقصة قديمة حدثت لهما ايام كانا يحاولان ان يجدا مشترين للوحاتهما لكن جهودهما تنتهي دوما بالفشل فيندفع هو صائحاً : “كل يوم لامال ولا نساء” . لا يتذكر ان بيكاسو يوما ارسل له ردا على بطاقاته البريدية ، وحين تقرر مجلة لايف ان تجري معه حواراً يشترط ان تكون صورته على الغلاف ، يقول لمحرر المجلة : ليست محاولة لتقليد الصعلوك الاسباني ، صحيح انه كان موهوباً ، لكن دون مهارة ، الشيء الايجابي الوحيد الذي يمكن ان يقال عنه انه كان أمهر من سيزان واكثر وضاعة من غوغان ” .
________
*المدى