*مصطفى الحمداوي
خاص ( ثقافات )
الرواية الناجحة هي التي تفتح في وجه القارئ أسئلة مستفزة بعد قراءتها، ومثل هذه الأسئلة يجب أن تلح على القارئ لوقت طويل. إن الأمر هنا يتعلق بوجوب تفاعل كلي للمتلقي مع النص الروائي، وهذه العملية لا تتحقق إلا بوجود نص مدهش ومثير ومفتوح على جميع التأويلات. رواية بمثل هذه المزايا لا يمكن العثور عليها في سوق الروايات المتداولة بسهولة، فإلى جانب المتعة ولذة النص التي توفرهما، فهي ترميك في عوالم متشابكة، ومتقاطعة، وأحيانا غامضة؛ لتورطك في عملية إبداع مضاد لا مناص فيه إلا أن تبذل مجهودا مضاعفا لتكون في مستوى النص الروائي المكتوب بحرفية عالية، وبهندسة دقيقة للأفضية والأزمنة والأشخاص..هذه العناصر كلها توفرها لنا الروائية المقتدرة سمية البوغافرية في رواية ” عاشقة اللبن “.
لقد كنت محظوظا بقراءة هذه الرواية التحفة الموسومة بعنوان ماكر: ” عاشقة اللبن “، رواية ملهمة، وبخيال خصب، وبعوالم ساحرة. رواية اعتمدت فيها الكاتبة على تقنية التدوير في لعبة سرد متقنة ومشوقة، إضافة إلى لغة متدفقة، منسابة، هادرة، متمردة. ولكن الأجمل أيضا أن سمية البوغافرية اشتغلت على تقنية الفلاش باك كاستعادة استعارية لأحداث واقعية، شكليا، وبرمزية عميقة قد تتجاوز الفهم، الذي تمنحه لنا الكاتبة كواجهة خادعة لا يمكن الوثوق فيها أبدا. فكاترين الفتاة الفرنسية الضحية، تتحول إلى ضحية مُدركة لوضعيتها في أكثر من مرة، وتنجح في الخروج من مآزقها الكثيرة مع والدتها المستهترة بأكثر الأساليب فعالية، بل كاترين الضحية هي نفسها كاترين الفتاة القوية الفاعلة في وسطها، المنقذة لوالدها ولأحمد وللقرية كلها. هذا الزخم الكثيف الذي تمور به نفسية كاترين؛ يخلق من شخصيتها أسطورة بمعنى ما، وسيصبح هذا الاعتقاد مكرسا عندما تحاول السلطات في المغرب نبش قبرها بعد وقت طويل من وفاتها، ودفاع الأهالي عن ضريحها، والقسم المرعب الذي تطلقه السيدة ” طونت ” خديجة بأن عملية النبش لن تحدث إلا بعد إبادة القبيلة برمتها..أسطورة كاترين لم تمت، إنها ضحية على الدوام، ولكنها ضحية قوية لا تُغلب.
تعتمد سمية البوغافرية في هذا النص الروائي الأنيق، على سرد مدهش، تشد به القارئ حتى الكلمة الأخيرة من الرواية، بل أكثر من ذلك، فإن الرواية ستظل في وعي القارئ يمارس معها عراكا ذهنيا مضنيا، في محاولة متواصلة لرتق تفاصيلها وجمعها من جديد؛ بالطريقة التي يكتشف في كل مرة أنها قابلة لتأويل آخر، وهذا الأمر يجعل من نجاح الكاتبة في رسم هذه الحيل السردية الجميلة، حتميا. بل ويجعل القارئ يتأكد بالملموس انه أمام روائية متمكنة من أدواتها، فالرشاقة في الرواية لا تتعلق باللغة البارعة، التي تبدو مطواعة في قلم الكاتبة فقط، ولكن أيضا تتضح أكثر في رشاقة الأحداث التي تطير بالقارئ كالفراشات الملونة، وهي ” أي الكاتبة ” عندما تعتمد أسلوبا سرديا ( ماكرا )، فإنها تفعل ذلك لكي تجعل القارئ يظل يقضا طوال لهاثه وراء الأحداث في الرواية، وتنجح في ذلك بخدع فنية ليست متاحة إلا لمن يمتلك حسا سرديا بارعا، وأدوات وتقنيات قوية، لبناء رواية غير نمطية في موضوعاتها، وفي القالب الفني الذي يصعب توصيفه بكلمات قليلة، هذا القالب أو الشكل، الذي مررت من خلاله الرواية أحداثا سريعة ومندفعة، وممتعة، رغم مأساوية الكثير من الصور، التي تقاطعت مع تفاصيل أخاذة في صور أخرى أكثر جمالية. هذا المزج الرائق فتح للرواية آفاقا رحبة، وأعطاها توازنا بديعا لم يتسبب قط في خلخلة تركيبة رواية محكمة في البناء، أو المس بجوهر أحداثها المثيرة، وهذه أيضا نقطة تحسب لامتلاك الكاتبة لفنون وآليات الصناعة الروائية بحرفية عالية.
اللبن، وبياض اللبن، وصفاء اللبن، يوظف في الرواية بمنتهى الدقة، فهو الذي يصبح الترياق السحري التي تستعمله ” طونت ” خديجة لكي تجبر كاترين على الامتناع عن التدخين، وهو الذي يصبح عنوانا للكرم، وللعمل في صورة إنشاء كاترين لضيعة تربية الأبقار الحلوب، تماما كما البحر الذي يتحول إلى تيمة أساسية في الرواية، ورمزية البحر هنا متعددة ومتشعبة، فهو مصدر للسباحة وللمنافسة وللفسحة، ولكنه مصدر للموت والفجيعة، وبهذا المعنى يمكننا تلخيص فكرة الرواية التي تنتهي بصورة ذات دلالات عميقة، ” الضريح _ القبر ” هذه الدلالات التي تجعل القضاء على الموت غير ممكن. كل هذه الصور تقتحم النص بحركية متموجة، هادرة، تقبل وتدبر في الآن نفسه. يسيل الدم في البحر، ويصير البحر كمينا للانتقام، ومصدرا للخوف الدائم. وسنلاحظ ثلاثية المسبح والنهر والبحر..الماء الذي يرعب أيضا، وذلك وجهه المظلم الآخر، وجهه الذي يتكرر باستمرار في الرواية.
إنها رواية انتقام بمفهوم ما في النهاية، حتى عندما يصبح هذا الانتقام رائعا ونبيلا إذا صح التعبير، كاترين تنتقم بطريقتها الجميلة من القرية، فتحول هذه القرية الفقيرة إلى ورش من العمل الدؤوب، وتنتقم من نفسها فتعتنق الإسلام، وتنتقم من أحمد وتتزوج منه، وتنتقم من “طونت” خديجة و”أونكل” بشير، لتخطف منهما ابنهما، بطريقة شرعية، تسعدهما وتدخل الفرح إلى قلبيهما.
في رواية تجريبية، وعلى حظ كبير من الدهشة التي تعبق منها، يجد القارئ نفسه أمام نص دسم، نص كامل، وبتوابل منتقاة بدقة عالية، إنه مطبخ الإبداع المتميز، إبداع لا يحتاج لكي يعرض نفسه على القارئ، يكفي أن يشرع هذا القارئ في قراءة الكلمات الأولى من الرواية حتى يجد نفسه مشدودا إلى أجوائها البديعة، وعوالمها المفعمة بجمالية أدبية بارعة. رواية ” عاشقة اللبن ” هي رواية الحب والموت والانتقام. ولكن الأمر هنا لا يتعلق بمفاهيم ذات دلالات واضحة كما قد يبدو للوهلة الأولى. فالحب في ” عاشقة اللبن ” حب مخاتل، حب بلا ملامح، تماما كما الغدر الذي يطوق هذا الحب بمنتهى الوحشية. لينتهي كل شيء عند عتبة الموت عندما يصبح لعبة في الرواية، لعبة تشبه لعب الأطفال، ولكنه موت قاس كموت ألعاب الأطفال وحزنهم البريء على لعبهم المعطلة المعطوبة. أما الانتقام فهو اللغة الأخرى المقابلة لكل مجموع المفاهيم والقيم في الرواية. إنه انتقام مرفوض، ولكنه مبرر في رواية تعطيك كل السبل لتتقبل التأويلات التي تقترحها عليك الكاتبة، وهي اقتراحات كثيرة جدا، تمنحك فرصا متعددة لقراءة الرواية قراءات من زوايا أفقية وعمودية متعددة.