*محسن الشبركة
يشكل ديوان الشاعر السعودي قاسم مقبل بقصائده السبع عشرة لونا من شعره متعدد الألوان، أو مجموعة منه بينها انسجام وتوافق ما تم اختيارها بعناية.
يقدم الشاعر لديوانه بمقولة أبي حيان التوحيدي “لا بد من بعض السكوت، كما لا بد من بعض القول..”، بهذا يقرر مقبل أن القول الذي يحتويه ديوانه هو نتاج بعض السكوت، لم يُقل إلا بعد تأن وصمت. هو سكوت كله امتلاء، سكوت مرفوق بالتعب ولهذا ينتج القول الشعري أو القصيدة. هذا الجدل المتبادل بين الصمت والقول يتمدد إلى داخل بنية القصائد فيظهر على شكل تداخل بين السطح والعمق في اللغة والدلالة، بين لغة سهلة ومعنى في المتناول ومجاز موغل في الرؤية والفكرة.
لهذا يمكن الادعاء بشيء من التعميم الحذر، وربما المجازفة، بأن لغة الديوان تتسم بالسهولة وترتفع عن المباشرة، لا تغادر البساطة في المفردة والتركيب وتغور في العمق، في الرؤية والمجاز. مفردات من اللسان اليومي: قبعة، درج، ماكياج، مرايا، إلخ. وجمل سهلة المأخذ وقريبة التناول لكنها تفاجئ القارئ بعد سطر في إيغالها في المجاز السهل الممتنع وفي جدة الرؤية.
من الناحية الدلالية، فإن معظم قصائد هذا الديوان يدور في فضاءات أربعة أو في أربعة حقول دلالية، لكل منها معجمها اللغوي، يتميز كل حقلين منهما بالتداخل والترابط. الحقل الدلالي الأول هو حقل اغتراب الشاعر الذاتي وتشيّئه وحزنه الداخلي العميق، ويرتبط بحقل آخر هو حقل الطفولة والبراءة والذي يحضر في أشكال متعددة، في صورة طفل أو طفلة أو صورة الأم والأب. وهو حقل يمثل امتدادا بشكل ما إلى موضوع الاغتراب. فبمعنى ما أن الاغتراب هو بسبب عدم امتداد البراءة وعدم شمول البياض للحاضر والواقع، بحيث تحضر البراءة أو التشوق إليها بسبب اغتراب المرء في اليومي والواقعي والسياسي. يقول قاسم المقبل “لم أكد أخرج من طفلي الذي كنت”، ويقول في مكان آخر “ينقصني ذلك الحافي الذي كنت…/ ينقصني عسل لأحزاني الطاعنة في المرارة/ درج أقيس به العتبات الخائنة/ قبعة لا تهيل عليّ غبار المكائد”.
فالشاعر الذي لم يكد يغادره الطفل، نجده يريد استعادته في أقسى صوره الدالة “الحافي الذي كنت”، وبهذا يشكل استحضار الطفولة أو البقاء فيها المعادل الموضوعي لواقع نفسي واجتماعي ضاغط يمكن تلمّس آثاره ومعرفة بعض تفاصيله في مقاطع من قصائد عديدة، يقول الشاعر “أحرس ضوء الغبار../ ليفتح باب انتظاراتي الخاسرة”، وفي مقطع آخر يتحدث فيه عن رحيل الأصدقاء “وهم ينفثون بقايا الضياع/ وسمَّ البلاد بقلبي/ يمدون جسر الغياب/ غريب .. يشد على ساعديّ، الغريب الذي كان قلبي”.
وفي مقابل هذين الحقلين الدلاليين بحضورهما في تشكلاتهما المختلفة، هناك حقلان آخران أكثر عمقا وأغزر دلالة. الأول يتعلق بصورة المرأة الحبيبة، والثاني بصورة القصيدة والمجاز الشعري أو اللغوي.
وكلا هذين الحقلين يقعان مقابل الحقلين السابقين ويشكلان الخلاص. فحضور المرأة والصور التي يأخذها هذا الحضور سواء كان الحسي والإيروتيكي أو الروحي والمعنوي، وكذلك تشكّل المجاز أو القصيدة في النهاية، هما الدواء أو الحل لمفاعيل الاغتراب. هناك خلاص بالمرأة وخلاص بالقصيدة. يقول قاسم واصفا حضور الشعر البهي “الشعر حوذي .. تأبط غيمة/ ترك النجوم وراءه/ ورمى الدلاء إلى السماء/ فجاء بالبشرى قميص غواية/ مطرا برائحة الأزل”.
أما عن المجاز وما يمثل معناه بالنسبة للشاعر فيمكن استحضار هذا النص الدال “انتخبي ما تشائين يا حلوتي/ من نبيذ المجازات.. حتى ندوزن هذا المساء/ ..سرير الغواية . لا يمنح البوح إلا لوحي المجاز../ ..انتخبي فالمجازات أنت حقيقتها”.
وفي النص تحضر المرأة ليحضر المجاز، فأحدهما يستدعي الآخر، وبهذا تتم دوزنة المساء.
إلا أن حضور المجاز أو القصيدة بقدر ما هو حضور للجمال والخلاص الفردي فإنه حضور له ما يوازيه من الألم، ليكتمل بهذا رسم دائرة دلالية: فالغياب ألم، والاغتراب ألم، والقصيدة تولد من الألم.
_____
*العرب