*مهند النابلسي
خاص ( ثقافات )
يتحدث الفيلم الأول “أمي”(2015) للمخرج (ناني موريتي) عن “مارغريتا” المخرجة التي تقوم بتصوير فيلم “واقعي” بشوارع روما مع الممثل الأمريكي (جون تورتورو)، الذي يتسبب لها بالعديد من المتاعب في مواقع التصوير المختلفة، وهي تحاول إحداث التوازن المطلوب بحياتها بالرغم من مرض واحتضار والدتها، وصعوبة التعامل مع ابنتها المراهقة الذكية.
هذا الفيلم الاجتماعي الشيق يخلط الجد والحزن بالطرافة والكوميديا، ويتضمن مشاهد فريدة منها طريقة تصوير اللقطات والحوار داخل سيارة، وما رافق ذلك من غرابة وكوميديا، وقد أبدع حقا نجم هوليوود (جون تورتورو) بدور باري هاغنز، وأستغرب عدم ترشيحه لأي جائزة، وتكمن غرابة هذا الفيلم لكونه يجدد الواقعية الإيطالية الشهيرة، مصورا فيلم داخل فيلم، وقد فاجأنا الممثل الأمريكي بتعبير صادق عندما تلعثم بأحد المشاهد مبررا ذلك بالملل المتراكم طوال السنين، مثنيا على “روعة الواقع” وجاذبيته، كما أشار لتجاربه السابقة الفاشلة مع كل من المخرج الأمريكي الشهير “ستانلي كوبريك” والممثل “كيفن سباسي”، حيث اكتشفنا أنه يكذب ولم يعمل قط مع كوبريك، ولاحظنا أن الممثل الطريف لم يستطع (ربما بقصد) أن يكون جديا بمواقفه التفاوضية مع العمال، وبدا عاجزا عن فهم مطالبهم العمالية وتقديسهم للعمل ورغبتهم بالمشاركة لتحقيق مطالبهم العادلة.
أبدعت (الممثلة مارغريتا باي) بتمثيل دور المخرجة المبدعة والمثقلة بالهموم، وبدت وكأنها تتحامل على نفسها وتكابد (هي وشقيقها) المعاناة والقلق لوضع امهما الصحي المتدهور بالمستشفى، محاولة بناء علاقات متوازنة مع كل من زوجها وشقيقها (جيوفاني وقام المخرج نفسه بالدور)، وصديقها السابق (مساعد المخرج) وكذلك ابنتها المراهقة، وبذلت ضبطا كبيرا لأعصابها لكي تتحمل جملة تصرفات الممثل الأمريكي التلقائية والارتجالية والكوميدية، كما استمعت بإصغاء لنصائح صديقها السابق وخففت من “تعاليها ونكدها”، بل أصبحت أكثر تواضعا وأقل تطلبا…حتى أمها العجوز المريضة فقد بدت تلقائية ومنصاعة لحقيقة مرضها، ولم تغرقنا بالحزن والأسى، بل حاولت أن تبقى متماسكة ومتعاطفة، حتى عندما نقلت للمنزل فقد استمرت برعاية حفيدتها وتعليمها اللاتينية التي هي أستاذة فيها، كما لاحظنا تأثر طلابها السابقين بفقدانها.
لا نعرف حقيقة سبب استقدام المخرج لممثل امريكي للقيام بالدور، وخاصة أنه لا يتقن الإيطالية تماما بل ويتلعثم أحيانا بنطقها، ولكنا استمتعنا بتداعيات ذلك، كما بدا الممثل الأمريكي كالمهرج ببداية الشريط، عندما أظهر سعادته الفائقة بوجوده في روما “عاصمة السينما الأوروبية”، وانطلق بالصراخ من نافذة السيارة التي أقلته للفندق، كما اتحفنا لاحقا برقصة شبابية صاخبة وساحرة أثناء احتفال طاقم التصوير بعيد ميلاده.
يسير هذا الفيلم الشيق الممتع على خطين متوازين، قصة “الإضراب العمالي” وتداعيات التعامل معه، وما يتضمن ذلك من ملابسات كوميدية وجادة، ثم يسلط الأضواء بالتوازي مع معاناة البطلة وشقيقها مع مرض أمهما بالمستشفى، ثم مع احتدام الحالة والانتقال للمنزل والاحتضار والوفاة، وبشكل واقعي حزين ومؤثر وإنساني.
هذاالفيلم اللافت يخوض باستكشاف المواضيع المصيرية المثيرة للتفكير والمتناقضة في مزيج متدحرج من الكوميديا والشفقة، وخلط شيق ما بين الدراما والمرح وبلمسات خفية من “الميلودراما” الذكية، وقد قدم لنا وجبة إنسانية إيجابية من السخرية والضحكات والدموع، ويستحق بجدارة الجوائز التي نالها في المهرجانات الدولية سواء على مستوى الإخراج أم التمثيل.
أما الفيلم الثاني فهو فيلم مميز أيضا وقد حصد العديد من الجوائز العالمية، وهو يستحقها بجدارة واسمه “رأس المال البشري”(2013) ومن إخراج (باولو فيرزي)، ويسرد لنا قصة شيقة تتحدث عن تعرض سائق دراجة هوائية لحادث دهس خطير من قبل سيارة “جيب” مسرعة ذات ليلة، ثم تتشابك الأحداث “كالمتاهة” وتتداخل التفاصيل في حياة كل من “برناتشي” و”اوسولا” في صراع طبقي خفي لمحاولة تدبير الأمور والحفاظ على الحياة المريحة للطبقة الوسطى التي ينتمون لها، وتبدأ القصة بانتظار “دينو اوسولا” وهو بمنتصف العمر لولادة “توأم” من زوجته الثانية الشابة، ولكنه يعاني من ضائقة مالية تجبره على إعطاء برناتشي مبلغا “كبيرا” من المال لكي يستثمره له كمدير مالي (بمؤسسة استثمارية) بنسبة عالية، لكنه يتفاجأ بعد حين بخسارة الاستثمار وبصعوبة استرداد المبلغ، ويلاحظ تهرب “برناتشي” ثم يحاول ملاحقته أثناء تواجده بملعب التنس وحتى بمواجهته أثناء اجتماعاته الهامة دون جدوى، ثم تتشابك الأمور مع وجود علاقة مضطربة لابنته المراهقة بالنجل المتهور المدمن “جيوفاني بيرناتشي” بحكم وجودهما بنفس الصف الدراسي، ويزيد كل ذلك من تعقيد الأمور في عالم التنافس الرأسمالي والطموح والمناصب، ثم يستغل “دينو اوسولا” بذكاء اكتشافه بالصدفة (بعد اطلاعه على اتصالات ابنته باللابتوب) لتورط صديق ابنته “الفنان الكادح” بعملية الدهس، فيسعى بلا تردد لابتزاز زوجة برناتشي الجميلة مسترجعا نقوده مع فائدة مجزية بالإضافة “لقبلة حميمة” من الزوجة في لقاء منفرد بالكنيسة!
تنبع “ابتكارية” هذا الفيلم الطويل المدهش في طريقة تناوله لمجريات الأحداث مسقطا عليها نوعا من “الكوميديا السوداء” الشيقة، معتبرا وجهة نظر الأطراف الثلاثة المعنية، بمراعاة انعكاس ذلك على الطمع واللامبالاة والتعالي كما الرغبات والقيم الإنسانية في أجواء متواترة تتفشى فيها المصالح الذاتية والأهواء الجنسية والتلاعب المالي الجشع…يتم أخيرا تسوية الأمور لمصلحة الجميع بالابتزاز والتأمين المالي وبسجن الجاني، وتبقى الفتاة المراهقة مخلصة بحبها للفنان المسجون لأنها ترى فيه نموذجا “للإخلاص والتضحية والحب الحقيقي”، فيما نلاحظ ضمن السياق قيام الزوجة الجميلة المحبطة بإقامة علاقة جنسية عابرة مع رجل “تافه وانتهازي” مشارك بمشروع ترميم المسرح الفاشل، وقد شاركت بحماس لمقاومة فكرة إنشاء مشروع سكني نظرا لشغفها الفائق بالمسرح لطموحها بأن تصبح ممثلة، حتى مشهد الإغواء الجنسي فقد كان معبرا ويتضمن “قسوة” لاذعة، ونلاحظ أن حلم “المجد الاجتماعي” وكثرة الانشغال المهني قد قادت الزوج لإهمال زوجته والاستهتار بذكائها ومطالبها.
يتحدث الفيلم عن أجواء “شمال ايطاليا”، وتكمن براعة الإخراج بسرد الأحداث من عدة أوجه ودون ترتيب زمني وبطريقة “الفلاش باك”، وباعتماد الروايات الثلاث المتداخلة للوقائع، كما أبهرنا طاقم التمثيل بروعة تقمص الشخصيات، حيث نال هذا الشريط جوائز بالإخراج والسيناريو والمونتاج كما بالأدوار الرئيسية والثانوية (قام بتمثيل الأدوار الرئيسية كل من “فابريزيو بينستيفوجليو، ماتياداجيولي وفالريابروني)، ناهيك عن براعة الصوت والتصوير…
يؤشر الفيلم لكيفية ارتباط مصائر عائلتين معا بفضل “حادث دهس” عابر بـ”جيب” بالليل قبل موعد “الكريسماس”، فالصدفة والكوارث كالأقدار قد توحد مصائر البشر أحيانا!.
يتحدث الفيلم ببلاغة مجازية عن “فقدان السعادة” على حد سواء عند الأثرياء والناس العاديين؛ لأن قيمة البشر بالمجتمع الرأسمالي تقاس باليورو!.