* حوار وتقديم: نوّارة لحــرش
( ثقافات )
يتحدث الكاتب والروائي اليامين بن تومي، في هذا الحوار، عن روايته الجديدة “الزاوية المنسيّة”، الصادرة مؤخرا عن دار الغرب المصرية. وهي الثالثة في مشواره السردي الذي افتتحه بـــ”الوجع الآتي” الحائزة على جائزة علي معاشي، ثم رواية ثانية “من قتل هذه الابتسامة” الصادرة عن دار الألمعية بالجزائر، والحاصلة على جائزة عبد الحميد بن باديس للسرد.
اليامين بن تومي، كاتب وباحث أكاديمي، وأستاذ تحليل الخطاب والآداب العالمية بجامعة فرحات عباس بسطيف، له مجموعة من الكتب النقدية والفلسفية منها: “مرجعيات القراءة والتأويل عند نصر حامد أبو زيد”، منشورات الدار العربية للعلوم بلبنان، الاختلاف بالجزائر، ودار الأمان بالرباط. “إدوارد سعيد راهنا”، منشورات ابن النديم بيروت. “البروكسيميا في السرد العربي” عن دار ابن النديم بيروت/ كتاب مشترك مع الكاتبة سميرة بن حبيلس، “ممكنات النهضة في الجزائر، العوائق والبدائل الممكنة”، عن سلسلة مواطنة بالجزائر.
بعد روايتك الأولى “الوجع الآتي” الحائزة على جائزة علي معاشي، وروايتك الثانية “من قتل هذه الابتسامة” الصادرة عن دار الألمعية، والحاصلة على جائزة عبد الحميد بن باديس للسرد، تأتي روايتك الثالثة “الزاوية المنسيّة”، وهي تقريبا تنخرط وتشترك في التيمة نفسها: “العشرية السوداء والمحنة”، ما رأيك؟
اليامين بن تومي: بداية أشكركم على هذا الحوار الذي يُعمِّقُ تجربة الكتابة، ويجعلها مُتاحة لجمهور القُراء، فما يجعلنا كُتابا ليس فعل الكتابة فقط، لأن من لوازم الكتابة القراءة كذلك، فعلينا أن نكتب لنُعزّز مجتمع القراءة، فلا أتصور البتة أن روايتي تنتمي إلى أدب الأزمة، لأني أتناول الأزمة ليس في عمقها السياسي، بل أخلاقيا وفكريا.
فأنا أُسلِّط الضوء على قضايا هامشية بعيدة عن الأزمة، لكنها المتسبب الحقيقي في الأزمة، أنا أسلط الضوء على الخطاب العام المتسبب في أزمة الخطاب الديني الذي يسود مساجدنا وواقعنا، أنا لا أعالج المسألة في سطحيتها التي تتعلق بحوادث مباشرة، وإنما أحاول أن أبحث عن بعض الجزئيات التي تُسبِّبُ شرخا في بنية الخطاب، وليس النقل المسف للواقع، هذه السِمة التي تُجسد عموم خطاب الأزمة لا تهمني ولا تغريني، فعديد الروايات التي تميز هذه الأزمة تختلط أسلوبيا بين أسلوب المباشرة وغير المباشر، فالسرد الذي يغريني ليس هو السرد المباشر وإنما السرد الذي يُسلِّط الضوء على المعاني البعيدة التي تأتي من الأقاصي والأباعد لتقول أشياء لا يمكن أن يقولها السرد المباشر، أنا أحاول تعرية الخطابات التحتية التي لا يراها إلا باحث بالمعنى الحقيقي، لأن الرواية في تصوري بحث دائم عن الحقيقة، وبحث في الأسس التي تشكل الخطاب، لكنه عالم متخيل وافتراضي، فالرواية يمكنها أن تتسرب إلى مواقع يعجز عن كشفها السياسي، إنها تحفر في داخل المناطق الغريبة واللامألوفة، وهي تعمل على تأثيث هذا العالم الطبيعي من الخراب الذي يسكنه، إنها تطبب المناطق البيضاء التي لم تتكلم بعد.
لماذا برأيك الرواية الجزائرية لم تخرج بعد من تيمة “المحنة”، فكثير من الكُتاب ظلوا يتناولونها في أعمالهم، وأحيانا نجد للكاتب نفسه أكثر من رواية تتناول الموضوعة ذاتها؟
اليامين بن تومي: السؤال الجوهري كيف يمكننا أن نتطهر من تجربة “المحنة”، وهل هذا الأمر سهل؟ لا أتصور ذلك، لأن المحنة كانت مجهدة وتسببت في شروخ جوهرية في عمق بنية الإنسان الجزائري، لذلك علينا بعملية تطهير واسعة تربويا واجتماعيا وأدبيا واقتصاديا لنخرج من عمق الهاوية التي نحن داخلها، وهذا لا يتم إلا بكشف ألاعيب الأزمة في جوانبها المختلفة، والأدب كظاهرة فنية يحاول أن يُعرِّي هذه المساحيق التي ما زالت تغطس رأس الأزمة في التراب، لأن منابت الأزمة ما تزال فاعلة فينا، لم نتخلص منها بعد، لم نتخلص من قلقها وتجربتها ككل.
الكتابة هي الفعل الوحيد الذي يمكنه أن يفضح الأصوات العميقة التي تمثل الأزمة سياسيا ودينيا واجتماعيا، هذه الأصوات الريعية والتاريخية أنهكت الإنسان من الداخل، جعلته يعيش أزمات حقيقة، ومن يعتقد أننا خرجنا من الأزمة فهو واهم، بالعكس، نحن ما زلنا نعيش الأزمة في العمق، فما الذي يجعلنا نطلُّ برأسنا؟ إنها الكتابة فقط، والتاريخ يحكم من بعد على الكل المؤسسات المتورطة فيها، لأن الكتابة هي الفعل الوحيد الذي يخرجنا من جُبَّة الأزمة.
“الزاوية المنسيّة”، تتناول أيضا المثقف ببعض تناقضاته، وصراعاته مع واقع مرحلة معينة من مراحل الجزائر، هي مرحلة التسعينات، هل يمكن القول، أن روايتك جاءت لتؤرخ لتحولات المثقف ومواقفه في تلك الفترة تحديدا؟
اليامين بن تومي: أكيد، فالمثقف الذي رسمته هو مثقف فاقد للمعالم، مثقف في مفترق الطرق، لا هو إلى هنا ولا إلى هناك، مثقف فاقد للوجهة والمرجعية، بعد أن أصبحنا نقتتل ونتصارع باسم المرجعيات الدينية والأخلاقية، جعلته مثقفا بلا انتماء، ليس له تحديدا لأننا حين نقول الأزمة، فيها تتعطل كل مراكز الثقافة، تصبح الحياة أهم من الثقافة، وهنا نعود على مرحلة الطبيعة الأولى حين كان الإنسان مهددا في وجوده، فالأزمة كانت تطرح مسألة الحياة كحياة، أما الثقافة فهي التي تقهر الموت، فقد كانت فِعلا مؤجلا، ذلك التعطل الحس-حركي هو من جعل البطل بلا وجهة، ولا بوصلة، بطلا مُلحدا، والإلحاد في أبسط معانيه هو السفر نحو العالم، مجردا من كل القيم، هو ردة فعل اتجاه التضخم الإيديولوجي واللاهوتي الذي عصف بكل شيء، بالأمة والتاريخ.
شخصية “المثقف” في روايتك لم تخرج عن الإطار العام لشخصية المثقف الجزائري والعربي: (مهزوم ومأزوم)، لماذا هذا النموذج هو الغالب في الرواية الجزائرية كما العربية عموما؟
اليامين بن تومي: لأننا للأسف فشلنا كعرب أن نؤسس لكتلة تاريخية تتبنى موقفا بطوليا في تغيير الأوضاع من خلال خلق بدائل حقيقية سياسيا وفلسفيا واقتصاديا، بقيت النخب العربية، نخبة مؤلدجة تشتغل لصالح يوتوبيات وليس لصالح مجتمعات وواقعيات، لذلك كان هناك شرخ رهيب بين النُخب والواقع الذي تعيش فيه، هناك شرخ رهيب بين عالم الأفكار وعالم الأشياء، ليس هناك انسجام ولا تفاعل..
الرواية، يتزاوج فيها الثقافي بالصوفي، وهذا من خلال البطل “الطاهر”، المثقف والكاتب، الذي يرث في الأخير مشيخة زاوية. كيف تقرأ ثنائية الصوفي بالثقافي والعكس؟
اليامين بن تومي: صحيح، فلا فاصل بين التصوف والإلحاد سوى تلك الاستقالة التي يحاول أن يؤسس لها العقل الصوفي، حيث أنه خطاب مفرغ داخليا من السياسة، خطاب يقوم على عضد التجربة الذاتية مثله مثل الإلحاد، إنه إبحار في عالم ذاتي داخلي، عبارة عن مونولوج عميق للذات، لذلك فالرواية برغم الحوارية الكبيرة التي ميزتها، إلا أن التجربة تتقاطع بين لبِنات الخطابين من حيث التأسيس في العزلة والفردانية، والتجربة الروحية العميقة، إن المؤسسة فرضت علينا نوعا من الفهم لا يقترب من المضامين في شكل عميق، بقدر ما تحاول المؤسسة أن تستبعد كل ما هو صلة بتجربة الفرد لصالح تجربة الجماعة، لذلك تحاول الرواية أن تبحر في عمق الفردانية وضد تيار الجماعة، الذي يجتر العادات والتقاليد والطقوس، وهي مجرَّد تأمل لتلك الكتلة المعرفية، وليس ترويج لفكرة الإلحاد بقدر ما هي تأمل في المختلف. لذلك فبطل القصة ينتهي شيخا للزاوية المنسية، وأقصد زاوية الفرد في تأمل ذاته وقضاياه.
الرواية أيضا تتطرق إلى موضوعة مهمة “تصادم الهويات”، وإلى البحث عن خلاص ما، حتى لو كان بالإلحاد، مثلا: “ما أروع الإلحاد الذي أنقذني”، كما جاء على لسان “الطاهر بن معروف”، ما رأيك؟
اليامين بن تومي: صحيح، الرواية تتطرق بعمق للأزمة الأنطولوجية الناتجة عن تأزم الخطاب الديني لأن الإلحاد كتوجه في العالم، وكرؤية للوجود تنبع من نظرتين عميقتين، الأولى نتيجة بنية الخطاب الديني الذي تكلس على مقولة قديمة، لم تعد تهب الناس الآمان والطمأنينة، لأن العلم أصبح بديلا حقيقيا لهذه الجنة الموعودة في الأرض، وبالتالي تأزم الخطاب الديني والتقدم التكنولوجي هما المسؤولان عن ظاهرة الإلحاد، والظاهرة في عمقها لا ترفض الدين، وإنما ترفض السلوك والممارسة الدينية في ممثليها الذين صاروا يمارسون أشكالا من الضحالة المفهومية للعالم، أي أن الخطاب الديني يقيم في عالم اليوم بمفاهيم الأمس، جعل الخطاب في ذاته مهزوزا وأمام تناهيه، أي أنه أصبح أمام اللاجدوي في الواقع، فإعادة تأمل هذا الخطاب يجعلنا نقف عند أساليب فهم الظاهرة لنحللها في عمقها الحقيقي.
أيضا في كثير من مفاصلها تفضح وتدين “ثوب المقدس”، الذي هو بشكل ما “مدنس” بخطايا وآثام كثيرة وفق سياقات ومراحل، وازدواجية مختلفة. ما رأيك؟
اليامين بن تومي: تحاول الرواية أن تساير مشروعا فكريا أعمل عليه، وهو كيف نُجدِّد الخطاب الديني اليوم، وهذا لا يتم إلا بالوقوف على معضلات هذا الكهنوت الذي إنبنى في مرحلة خطيرة من حياتنا كجزائريين، أي قمت بتشريح العواضل والمشاكل الداخلية العميقة التي انحدرت إلى أزمة أخلاقية فظيعة، عملت على تشويه الإنسان في عمقه، وهنا نقوم بالتمييز بين الدين ومن يمثله، لأن الذي يلاحظ بنية الخطاب الديني يجد بعض الممثلين الجهلة الذين عمقوا أزمة الخطاب الديني، والذي أنهك هذا الخطاب من الداخل، لذلك يستحق هذا الأخير تشريحا من الداخل لنقوم على تهافته ونعيد بناءه بناءً علميا وموضوعيا لنُخلِّصه من كل الأشكال التاريخية التي لا يمكنها أن تتماشي مع قيم العالم القديم.
مفارقة أخرى تحدث في نص وأحداث الرواية، الطاهر الذي رأى في الإلحاد خلاصا ومُنقذا له، يختفي من المتطرفين ويحتمي داخل صومعة المسجد. وكأن هذا إحالة واضحة تُشير إلى أن الدين/الملاذ فيه حماية وخلاص ما؟
اليامين بن تومي: هذا النص يميز بين الدين والأشخاص الذين يتكلمون باسم الله في الأرض، كيف أنه في رحاب الله تذوب البشرية، وتبحث عن خلاصها، وكيف إذا صار الأمر إلى الأشخاص يضيق الخطاب ويتأزم، لذلك هرب البطل من الأشخاص ليرتمي في حضن الله، يرتمي في عالمه الذي يدل عليه، وفي رحمته اللامتناهية واللامحدودة.
الرواية، مثلما يتداخل فيها الثقافي بالصوفي، يتداخل فيها السياسي بالتاريخي، الديني والإيديولوجي، التراثي بالحداثي. هذا ما جعل منها رواية متعددة الأصوات، ومتعددة الحالات والحساسيات. ما رأيك؟
اليامين بن تومي: صحيح، لأن مشروع الفرد هو التأمل، بينما مشروع الجماعة هو سياسي، فالجماعة حينما تنعدم فيها القيم سرعان ما تتسارع نحو جمهرة القيم وتوزيع الريع، وتأسيس طبقات تاريخية تحافظ دوما على ثبات القيم التاريخية، وهي قيم ريعية قديمة، على عكس النزعة الفردية التي تخرج عن قيم الجماعة فلحظة التأمل تمثل دادائية وصعلكة بالمفهوم الايجابي، لأنها تحصل على مستوى العقل، على هامش تاريخ الجماعة السياسية، فالفردية تؤسس للعقلانية، في مقابل الجماعة التي تبني مخيالا سياسيا فظيعا عن سلطة الانتصار حصلت في الماضي، هذا التعديل التاريخي يحاول أن يصنع بعض القيم الجديدة تدفع مجتمع المعرفة على حساب مجتمع الريع والقبيلة الذي نعيشه، وبالتالي تحمل الرواية في عمقها نقدا لهذه القبلية أو الأبوية التي تسكننا، إن التقويض يبدأ من داخل الفرد وليس من خارجه.
إلى جانب “مشروع الفرد: التأمل، ومشروع الجماعة: السياسة. الرواية بشكل ما مشغولة بهوية الفرد لا الجماعة، إذ نقرأ مثلا على لسان الطاهر: “لم تشغلني تلك الحقائق الكبيرة عن الهوية لأنه لم يهمني أن أبحث عن هوية الجماعة، أنا أعاني أزمة فرد”.
اليامين بن تومي: نعم، لأن مشكلتنا أننا كائنات ريعية تنتمي للطقوس التاريخية وهي طقوس الجماعة، وبالتالي تشكل في لاوعينا أنه من المستحيل نقد هذه الطقوس آو العادات، لذلك بطلي في الرواية أراد أن يعيد تأمل ذاته بعيدا عن الجماعة، ليعيد تحقيق التوازن لنفسه في العالم، بعيدا عن الجماعة التي أغرقت في التاريخ ونسيت الحاضر.
الرواية لا تخلو من بعض الفلسفة، وهي تزخر بمحمولات فلسفية وبتأملات فكرية، ويبدو الجانب الأكاديمي الذي يميزك جليا في الكثير من فحواها وأفكارها. ما يعني بشكل ما أن الكاتب لا يخرج عن المناخ العام الذي يتميز به عادة؟
اليامين بن تومي: أنا أكتب ما يُسمى الرواية الأطروحة، وهي ما أسميه الرواية الأكاديمية التي تستعين بجوانب فكرية وفلسفية وعلمية، لأنها تتعاضد مع المشروع الذي أحاول بناءه أو على الأقل تأسيسه.
الرواية صدرت عن دار نشر مصرية، هي “دار الغرب”، هل يعني هذا أنك تبحث عن انتشار أكثر لأعمالك الأدبية، أم هي تجربة نشر خارج الحيز الجزائري وفقط، وما الذي تقدمه دور نشر عربية ولا تقدمه دور نشر جزائرية محلية؟
اليامين بن تومي: هذا حلم كل كاتب أن تتوسع قاعدة قراءه، فلا يجب أن يبقى الإنسان محصورا في دائرة بلده، نحن نعرف جميعا أن النظام الثقافي في الجزائر محكوم بأسبقية الخارج على الداخل، أن تأتي باعتراف من الخارج لتصبح بالضرورة معترفا بك في الداخل، لأن الأخير يفتقد لصناعة عميقة للقارئ.
————————
*جريدة النصر الجزائرية