*لطفية الدليمي
ربما كانت واحدة من البلايا الكثيرة التي تصيب الشعوب الرازحة تحت سطوة أنظمة شمولية لفترات طويلة تكمن في حالة التشنج الذهني وغياب الاسترخاء الذي غالباً ما يقود إلى صدامات و مآسٍ كبيرة ، و مما يفاقم هذه الحالة العصيبة لدى هؤلاء هو الفقر البصري الملازم لحالة الركود التي تطبع المجتمعات المبتلاة بهذه النظم البائسة ، فكل تضييق على الناس في عيشهم وحركتهم يسبب العوق الذهني والروحي ويفاقمه. وتتجلى هذه الإعاقات في ظواهر محددة ، لعل أبرزها التشبث الصارخ بالأفكارالتي يتبناها الفرد ويرفعها إلى مصاف المعبود الأيديولوجي ويمارس الدفاع عنها بلغة تكاد تكون أقرب الى لغة البلاغات الحربية وخطابات المستبدين بين الحشود المخدرة. تُفهَمُ هذه الحالة في الغالب بكونها آلية دفاعية يسعى إليها الفرد المسحوق لإضفاء معنىً ما على حياته والتخفيف من إحساسه الطاغي بالدونية و الإنسحاق ، ولو تابعنا صفحات التواصل الاجتماعي “الفيسبوك” أو “التويتر” مثلا سنجد الكثير من هذه المناكفات العقيمة وعبارات الهزء المستفزة التي لاتستثير سوى مكامن العنف والاستعداء بدل الحوار الحضاري المسترخي البنّاء.
لعل أغلبنا قرأ أو سمع بِـ ” ريتشارد دوكنز” العالم الإحيائي الكبير و صاحب كتاب “الجين الأناني” الذي أطلق موجة صاخبة من الإهتمام عند نشره عام 1976 ثم توالت كتبه الأخرى التي تؤكد نسقاً فكرياً يرمي إلى دحض فكرة “المبدأ التخليقي ” في مقابل ” المبدأ التطوري ” ، ومن يقرأ كتب دوكنز ومقالاته المثيرة للجدل يجد رجلاً هادئاً يميل إلى عرض أفكاره بترتيب دقيق محكم و منهجية منظمة دونما صراخ ناتج عن روح مأزومة ، فهو يجتهد بأقصى طاقته لعرض حصيلته الفكرية وخلاصات بحوثه ، ويترك الحُكم بعد هذا للقارئ ليتخذ موقفه دون أن يستميله بإحالات أو أيديولوجيات سائدة مغوية . في المقابل نجد مناصري الفكر التخليقي يردون باللغة الهادئة المنضبطة المتميزة باللباقة ذاتها ،حتى لو كانوا رجال دين رسميين كما في حالة الفيزيائي ( جون بولكينكهورن ) أستاذ الفيزياء في جامعة كامبردج وصاحب المؤلفات الكثيرة التي تسعى إلى خلق تواصل بين الفكر الكاثوليكي والفيزياء الحديثة، فلنتأمل المقطع التالي الذي يكشف عن كياسة ودماثة كاتبه الفيزيائي ( بول ديفيز ) الذي يقف بالضد من راديكالية دوكنز ولكن في إطارمن الرُقي الأخلاقي و الاسترخاء العقلي الذي يليق بكائنات إنسانية وبفيزيائي لامع في مجاله . يكتب ديفيز قائلاً : ( أنا أنتمي إلى جماعة من العلماء الذين لا يشتركون في دين تقليدي، لكنهم في الوقت ذاته يُنكِرون أن الكون حادثة لا غاية لها ، فمن خلال عملي العلمي توصلت إلى الاعتقاد الحاسم أن الكون الفيزيائي قد تمّ تشكيله بمهارة لا أستطيع قبولها كحقيقة مجردة فحسب، كما ينبغي لي القول بأن هناك مايستدعي وجود تفسير أكثر عمقاً ممّا هو سائد ، فإذا أراد المرء أن يسمي ذلك المستوى الأعلى ( الله الخالق ) فتلك مجرد مسألة تعريف وميل شخصي ، وفوق ذلك فقد توصلت إلى أن العقل – أي الإدراك الواعي للعالم والطبيعة – ليس سمة عرضية بل جانب أساسي تماماً من جوانب الواقع . أعتقد أننا – نحن البشر – موجودون داخل مخطط أشياء الوجود بطريقة أساسية جداً .. ) . ترى متى سنكتب بهذا القدر من الاسترخاء والكياسة حتى ونحن نناقش ما نعتقده أخطر الأفكار وأكثرها قدرة على توليد الإختلافات و المشاكسات المفاهيمية؟
________
*المدى