الحوار السماوي مع (آدم) و(إبليس)


*د. محمد عبد المطلب

(1)

إن الحوار الذي دار بين الله والملائكة كشف عن طبيعة آدم وذرّيّته البشرية، وأنهم مجبولون على (المعصية)، ولعل هذا هو الذي دفع الملائكة إلى سؤالهم عن سبب استخلافه في الأرض.
قبل مجيء الأمر الإلهي بنزول آدم إلى الأرض، كان يسكن الجنة مع زوجه حواء، يقول الكتاب الكريم: «وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ(19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ(20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ(21)» (سورة الأعراف)، لقد أدّى الشيطان مهمّته الإغوائية، وخدعهما بأن الأكل من الشجرة فيه مصلحتهما، لأنه يدخلهما في زمرة الملائكة، بل يمكن أن يدخلا منطقة الألوهية فيكونا من الخالدين، وهو ما يجعلنا نستعيد مقولة الملائكة عندما أخبرهم الله بأنه سوف يستخلف آدم وذرّيّته في الأرض، وكان رأيهم أن آدم وذرّيّته مجبولون على الفساد والإفساد، أي أن رأي الملائكة فيه جانب من الصواب، والدليل على ذلك هو استجابة آدم وحواء للغواية الشيطانية: «فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ(22)» (سورة الأعراف).
وبعد ارتكاب المعصية لاستجابة آدم وحواء للغواية الشيطانية، وإدراكهما لخطيئتهما، توجَّها إلى الله قائلين: «قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ(23)» (سورة الأعراف)، ومع المغفرة الإلهية، جاء الأمر السماوي بالنزول إلى الأرض: «قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ(24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ(25)» (سورة الأعراف)، وواضح أن الأمر جاء بصيغة الجمع، لأنه موجَّه لآدم وحواء وإبليس.
إن أهمية هذا الحوار في توضيح الأسباب التي أدَّت إلى خروج آدم وحواء من الجنة، ليكونا أول المغتربين في الوجود البشري، وأن خروجهما كان لاستجابتهما للغواية الشيطانية، أي أنهما كانا في صدام بين السلطة العليا والسلطة السفلى، لكنهما آثرا الاستجابة للسلطة السفلى، وربما كان مبرِّرهما أن الشيطان (قاسمهما إنه لهما من الناصحين)، ولم يتصوَّرا أن الشيطان يمكن أن يحنث في القسم الإلهي، ومن ثم كانت استجابتهما له، لكنهما لم يتماديا في خطيئتهما، فما إن أدركا جرمهما حتى توجَّها إلى الله: «ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين».
(2) 
في هذا المحور نلحظ أن الحوار بين الذات الإلهية وإبليس قد تحوَّل إلى نوع من الجدل من جانب إبليس، وبدأ الجدل من خروجه على الأمر الإلهي بالسجود لآدم، ويحكي القرآن بداية الحوار في قوله تعالى: «قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ(12)» (سورة الأعراف)، وهذا الردّ من إبليس بداية الجدل والمغالطة، التي لا تسوِّغها المرجعية الدلالية للمفردتين (النار – الطين)، ومن ثم جاء الردّ الإلهي الحاسم: «قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ(13)» (سورة الأعراف)، ويوغل إبليس في تمرُّده: «قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(14)قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ(15)» (سورة الأعراف).
ويزداد إبليس في تمرُّده وعصيانه: «قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ(16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ(17)» (سورة الأعراف)، ويصل إبليس إلى ذروة التمرُّد: «قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(82) إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ(83)» (سورة ص)، وهنا جاء الأمر الإلهي النهائي القاطع: «قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُوماً مَّدْحُوراً لمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ(18)» (سورة الأعراف). 
ومن الممكن النظر في هذا الحوار بين السلطة الأعلى والسلطة السفلى على أنه درس للبشر الذين يسكنون الأرض في تعاملهم مع سلطاتهم الدنيوية – والتشبيه مع الفرق بالطبع –. وهذا التمرُّد من إبليس في مواجهة السلطة الإلهية التي إذا أرادت شيئاً فإنما تقول له: «كن فيكون» يعني- ضمناً – أن الله سبحانه هو الذي سمح له بهذا الاعتراض المتمرِّد، ومن ثم كان الجزاء لأن إبليس اختار التمرُّد على الطاعة، وإذا كان ذلك كذلك، فنحن- البشر- لنا الحق في مواجهة السلطة الدنيوية بالحوار للوصول إلى الحقيقة والحق.
_______
*الدوحة

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *