باسم فرات: تلاحم الرحلة مع القصيدة




حاوره: علي عبيدات*


خاص ( ثقافات )

شاعر ورحالة عراقي بدأ بقصيدته الحالمة رغم مكوثه بين سندان الواقعية ومطرقة اليُتم والعمل في سن مبكرة، وبدأ باسم فرات برحالاته التي طاف بها عشرات الدول بعد مخامرة القصيدة والقراءة بنهم وتكوين الشخصية الشعرية، محاولاً أن يبحث عن قصيدته على شفاه الأنهار وخلف تخوم البلاد التي لا يعرف عنها شيئاً إلا اسمها، فعاش واختلط بأهلها وقرأ تاريخها ودوَّن تراثها وقصصها القديمة تحت مسمى أدب الرحلات بمعية قصيدته التي لا تتوقف على امتداد الحدود.

المسافر الدائم والتائه بين طيور كيتو ومأساوية كربلاء وتقلبات اليابان والبلدان العربية والآسيوية والأفريقية بجذوره السومرية والبابلية، بعد حياة مليئة بالقيود والكبت، ليتنفس باسم فرات من رئة الحدود وشجيرات القصيدة ويقدم للمكتبة العربية أدب رحلات جديداً كُتِبَ بنكهة شاعرية بين معلومة وتوثيق واندلاق وجداني، وحتى الآن يحمل باسم فرات حقيبته وقصيدته ويهيم بحثاً عن سيرة الأماكن وربّات القصائد.
التقت ثقافات الشاعر والرحالة العراقي باسم فرات لمحاورته، وتالياً نص الحوار: 

1 – باسم فرات.. لست حزيناً في نصِّك بقدر ما واجهت الصعاب في حياتك، وخصوصاً طفولتك التي خضبها اليُّتم والعمل في الحرف اليدوية، لم تكن متشائماً أو سوداوياً ساخطاً على الآخر والمجتمع على غرار الفرح الذي تحاول أن تصنعه في نصك، ولنا أن نعتبر نصك نصاً أدبياً فيه الحزن الذي يجتمع تحت رايته كل كاتب، لكن هذا الحزن لم يكن نهجاً في الكتابة والحياة باعتبارك تجرعت ويلاته في طفولتك. كيف يستقيم هذا، هل تُمثل الفرح؟ 

متفائل بطبيعتي، ولا أنكر أن الحزن ألقى ظلالاً كثيفة في كثير من قصائدي المبكرة، لكن رويداً رويداً بدأ الحزن أكثر شفافية وأقل وطأة، ويأتي عفويّاً، وأنا مبتهج بالحياة، أؤمن أن المستقبل سيكون أفضل، مع التأكيد لن يتحقق هذا حتى تتم مراجعة نقدية شاملة للتراث ونزع المقدس عنه، هل أنا ثوريّ؟ لا أزعم هذا، ولا أظنني، ولكني قارئ يقترف الكتابة ويجد متعة مختلفة فيها، ربما هي أجمل متعي، لكني أستطيع القول إنني أكتب ذاتي، نفسي، تجربتي الحياتية.

لا أنكر ذلك الألم والحزن والمرارة والشعور بالوحدة والخيبة والحنين، الذي طبع قصائدي حتى نهاية التسعينيات وبداية الألفين، لكنني لم أكن أتوسل القارئ، كنت أختنق حين أكتب، وأشعر قبل الكتابة بحالة عجيبة، بكل ما ذكرت أعلاه، كأنني من وطأة الأسى والخيبة لا شيء، وحينها كنتُ أعلم أن هذه أعراض كتابة قصيدة جديدة، فكانت تزخر قصائدي بحزن ثقيل، لكن تأملي في حياتي الجديدة في نيوزلندا، ومحاولتي سبر أغوار لغة البلاد الرسمية وهي الإنجليزية والمجتمع الجديد، بل وتنوعه وخلفيات غالبيته ممن جاؤوا من قارات العالم، والنجاح الذي حققته في البلد الذي أحمل جنسيته، دفع بقصيدتي أن تبحر في حوامل ثقافية ورؤية شعرية تطورت، واندفعت نحو مناطق شعرية جديدة، لا سيما مع الاحتكاك الكثيف والواسع لي بالوسط الأدبي النيوزلندي.

2- باسم فرات ليس مواطناً، وقد أُرْهِقَ جواز سفرك من وطأة أختام الدول والحدود على وريقاته، وطنك العراق الذي لا تعيش فيه ولعلك ترعرعت فيه وهو في أقسى حال على أبنائه وتحديداً الشاعر المنهك من الغطرسة والاستبداد، فكتبت عن رحلاتك في العالم أكثر مما كتبت عن العراق، والأهم من هذا كيف يكون المرء سائحاً طيلة حياته ومن أي رئة يتنفس باسم فرات؟

العراق يسكنني، وكتبت عنه بما أعتقده مهمّاً، فمع انحدار القومية العربية على يد القوميين المستبدين في السلطة الشمولية، ولا سيما بعد كارثة اجتياح الكويت، راحت أصوات شوفينيين تزعم باطلاً وبغلو فاضح، أن العراق وطن اصطنعه الإنجليز، فكتبت مقالة أعتمد فيها إلى آراء القدماء من بلدانيين ومؤرخين في تحديدهم لجغرافية العراق وحدوده، وتناولت في مقالات مشاكل الهوية والسرديات المؤدلجة، وارتداد المثقفين إلى هوياتهم الضيقة.

لديَّ مشروع كتاب عن العراق أتمنى أن يتحقق، وربما أكثر من كتاب، لكني أعتقد أن العراق بحاجة أن أكتب والكتاب والأدباء العراقيين، ما يساعد ويخفف من غلواء العنف والارتداد المشين نحو الهويات الضيقة، أن نثبت حقائق تعايشنا التاريخي وأن تنوعنا ثراء للبلاد، وأن نركز على التزاوج والاختلاط ونحيي الروح الوطنية، ونتصالح مع تاريخنا، فلا نمجد فترة ما ونحارب بقية الفترات، ونعتبر الذين حكمونا على امتداد التاريخ، أنهم تحولوا من غزاة إلى عراقيين بعد عدة أجيال وذابوا في النسيج العراقي بعد قرون، وهذا يفتح الباب واسعاً مع حقيقة أننا خليط من هذه الأقوام جميعها، مما يزرع الحب لكل القوميات والأديان والمذاهب. 

3- ما سر المسافة في نصك التي جعلت سيرتك الإبداعية وحياتك أيضاً محض مسافات شاسعة وعبور مؤقت وإقامات واستكشاف، فجاء كل هذا الاتساع بعد حياة ضيقة جداً أمضاها الطفل في العراق عاملاً يتيماً محاصراً بين البحث عن رزق والحلم بالانطلاق، ولعل المسافة صفر كانت جلية في أدق تفاصيل حياتك، مسافة العائلة مثلاً “صفر” فأنت يتيم مات أبوك وأنت ابن عامين، بينما أمك التي لم تكمل عامها السابع عشر، اضطرت تحت ظروف ما إلى الانتقال إلى بيت أبيها، لتعيش في كنف جدتك التي تشبثت بك تعويضاً عن فقد ابنها البكر، والتي لم يبق منها ومن العائلة إلا صورة تذكارية تصفها أنت بالتاريخية لأنك التقطتها قبل موتها بأيام، كل المسافات “صفر” فأنّى لك هذا الولع بالمسافة والرحلات؟

بدأت القراءة والكتابة في سنّ مبكرة، وألهبت مخيلتي حياة الشعراء والأدباء والمفكرين، لكني آمنت في الوقت نفسه أن الخصوصية هي الطريق الأمثل للتفرد في القراءة والكتابة والحياة عموماً، هذه الانتباهة المبكرة، جعلتني لا أحلم بالعيش في باريس أو لندن أو أية مدينة كبرى لها تاريخ ثقافي حافل، مع وجود جالية عربية مثقفة، لأن هذه المدن تَشَكّلت في الوعي الجمعي عبر كتابات ومشاهدات المثقفين، لكن المناطق النائية والهامشية سأشَكّلها أنا.

ثمة طريقتان للكتابة، واحدة تعتمد على القراءات، فيكون النص المكتوب، ابناً بارّاً لهذه القراءات، والأخرى تعتمد التجربة والقراءات، والسفر وتجديد الأمكنة، أساساً متيناً في تشكيل التجربة الشعرية، والثقافية عموماً، لو تأمل الكاتب المجتمعات المتنوعة التي يعيش فيها، والتقط دهشتها وخصوصيتها وشعريتها، فإنه سينجز كتابة تتجدد بعوالمها وأجوائها، وهذا ما أطلق عليه بكتابة اللغة فيما يخص الأول، والكتابة الحياتية فيما يخص الثاني، وثمة طريقة ثالثة تجمع بين هاتين الطريقتين بنسب متفاوتة لصالح إحداهما.

4- مَن يصنع مَنْ في جدلية باسم فرات “الرحلة والقصيدة”؟ فلا يقال عنك إلا “الشاعر والرحالة” معاً، من صنع الرحلة واستقطب القصيدة في تجربتك التي لم يألفها العصر الحديث بأن يجمع المبدع بين حقيبة الرحلة وأوراق القصيدة؟ 

لم أنشر عن رحلاتي إلاّ بعد أن أصدرت خمسة دواوين شعرية، وبعد إلحاح من الأصدقاء. الرحلة محفز لكتابة القصيدة، لكنها ليست المحفز الوحيد، وعلى امتداد ما يقارب ربع قرن، أحمل معي كتاب التاريخ، ليس بوصفه تاريخ معارك وملوك وأمراء حرب، بل بوصفه تاريخ ثقافات ومجتمعات ولغات وعادات وتقاليد وآثار وعقائد وتطورها، وبين قراءة هذه الكتب.

وبين تأمل المجتمعات والثقافات التي عشت فيها وقرأت عنها وعايشتها وزرتها، رحت أقارن بحثاً عن روافد إنسانية مشتركة، وتأسيس رؤية خارج نطاق المؤثرات الأيديولوجية، وهيمنة الجماعة وسطوة المتداول من التاريخ. منحني الترحال، حرية التفكير والاختيار في قراءاتي التي لا أنكر أنها كانت مختلفة عما هو سائد بين أقراني ومَن جايلتهم وهم سبقوني عمراً وتجربة ونشراً، وأعني الذين ولدوا بعد تأسيس الجمهورية العراقية، ممن يكبرونني بعشر سنوات وأقل أو أصغر مني بسنة وأكثر.
بحثي عن المعلومة الصحيحة البعيدة عن توجهات العقائد (سياسية ودينية ومذهبية وقومية) أنقذني من الوقوع في براثن الشفاهية، أي نقل الآراء عبر وسيط شفاهي وليس عبر القراءة والبحث والتقصي والمقارنة والاستنباط وسؤال القراءة، وهذا ضخّ مياهاً عذبة في قصائدي، فكانت النتيجة جغرافيات وبيئات متعددة وعمقاً تاريخياً، واعتماد شخصيات ورموز تاريخية لم يلتفت إليها الشعراء ومنهم الملك العربي امرؤ القيس الذين وجدوا شاهدة قبره في سورية في حران، والمتوفى بحسب النقش في سنة 328 ميلادية، وأذينة بن خيران الذي حاصر المدائن وكاد يُسقط الإمبراطورية الفارسية ويقيم إمبراطورية عربية. 

5- احتفى بك النقد بأكثر من مئتي دراسة ومقالة وكرمت في العديد من البلدان تزامناً مع حصدك للجوائز ولك من الأعمال ما يؤهلك لهذا الاهتمام أبرزها “أشهق بأسلافي وأبتسم، دموع الكتابة، إلى لغة الضوء، بلوغ النهر، الحلم البوليفاري”، وغيرها، لكن، في أي بلد يجلس جمهورك؟

لا أدري لماذا كلما أسمع أو أقرأ كلمة “جمهور” تأتي الصورة لمطرب أو مطربة على مسرح ومدرجاته مليئة بهم، ربما هو إحساس أن الشاعر بلا جمهور، فهذه الكلمة لا تتفق وطبيعة الشعر على العموم، الشعر فن نخبوي، وربما كلمة “قرّاء” أو “متلقٍّ” أكثر دقة ولا سيما الأخيرة.

أكتب وليس في مخيلتي جمهور ولا قُرّاء ولا متلقين، أكتب لأني أجد ذاتي، متعتي الكتابة، وكذلك أنا بلا منافسين، ومنافسي الوحيد هو أنا، عليه فثمة إحساس في داخلي أنني قارئ يقترف الكتابة، والقارئ لا جمهور له.

أما ما شرفني به النقاد والشعراء والأدباء فهو مسؤولية كبيرة أتمنى أن لا أخيّب ظنهم بي، وأما الجوائز، فلست ممن يتباهى بها، وهي ليست مقياساً، وبعضها لا قيمة له، فما قيمة حصول الشاعر على جائزة ولم تحفز النقاد والشعراء والقراء على اقتناء كتبه وتناولها نقديّاً. إن الجوائز قيمتها في مردودها المالي والاجتماعي أكثر، على الأقل على الكاتب أن يؤمن بهذا لكيلا يقع ضحية الغرور والثقة المفرطة التي تقتل إبداعه.

*شاعر ومترجم أردني.

شاهد أيضاً

فضاءَاتُ الطفولة المُستمِرّة في “أيْلَة“

(ثقافات) فضاءَاتُ الطفولة المُستمِرّة في “أيْلَة“ بقلم: إدريس الواغيش في البَدْءِ كان جمال الطبيعة وخلق …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *