*عثمان حسين
كان العام الفائت 2015 والذي ودعناه قبل نحو أقل من شهر، هو عام الاحتفال بمئوية الناقد والكاتب الفرنسي الكبير رولان بارت «1915 – 1980» وقد أفردت «اللوموند ديبلوماتيك» الشهيرة في عددها الصادر في ديسمبر/كانون الأول الحالي حيزاً من هذه الاحتفالية بعنوان (رولان بارت الرائد) سلط الضوء على موجز من حياة هذا الكاتب الكبير من واقع ما جمعته الكاتبة تيفان سامويو من طلابه وأصدقائه ومعارفه، وما حفظ من أوراق بارت الشخصية خصوصاً «جذاذات يومياته» ومفكراته ومراسلاته، بما في ذلك الحياة الحميمة لرولان متضمناً مرضه وحداده على أمه الذي لم ينته حزناً على موتها.
رولان بارت من حيث تجربته في الكتابة، هو مثال ساطع على حرية التفكير والنقد، بل هو كما يوصف مغامر فكري، وطلائعي، خارج من كل الأطر التقليدية والإيديولوجية، متمسك بالحلم الإنساني، حتى وإن بدا ملتبساً وغامضاً في طروحاته، وتنظيراته التي أثرت في مجريات النقد الحديث مروراً بالبنيوية والتفكيكية، وليس متوقفاً بكل تأكيد عند نزعته السارترية، كما في كتابة «درجة الصفر في الكتابة»، بل كان مفاجئاً دائماً وهو الذي قدم للثقافة الفرنسية والعالمية سلسلة من الكتب أبرزها «لذة النص» وهو الكتاب الأكثر تداولاً بين المفكرين وفي حلقات النقد الحديث وفي المدارس والجامعات الأكاديمية حتى يومنا هذا.
من حيث المنهج النقدي، ظل رولان بارت مديناً لتأثره الماركسي الجدلي في النقد، لكنه أيضاً تأثر حالم، يشاغب الأسطورة والطبيعة والتاريخ والجغرافيا وثقافات الشعوب، يحلل، ويفكك ويبني من جديد، في نسق لم تعهده الثقافة النقدية من قبل، وهو الذي وصفه الناقد الأمريكي غراهام ألين بأنه «شخصية محورية في دراسة اللغة والأدب والثقافة والإعلام» في كتابه عن بارت، وهو الكتاب المعروف الذي يعد ثمرة اللقاء الأول بين غراهام مع رولان بارت، وهو نتاج مناقشات نظرية جادة بين الاثنين حول مؤلفات بارت التي تشمل: الوجودية والماركسية، وعلم الرموز، أو «لغة الإشارة»، والبنيوية والتحليل السردي، وما بعد البنيوية، التفكيكية و«موت المؤلف» و«نظريات النص والتناص» وهي التي تضيء على حوارات بارت مع المفكرين الذين ارتبطوا بسيرته، وكانت بينه وبينهم لقاءات عديدة مثل سارتر، سوسير، دريدا وكريستيفا، يقدم غراهام في كتابه صورة واضحة عن تفكير بارت وفهمه العميق بما يخص النظرية النقدية المعاصرة.
يلتقي ذلك مع كتابات كثيرة، سجلها عدد من النقاد الغربيين، من بينها ذلك التقديم الذي أورده ريتشارد ميللر مع ملاحظات لريتشارد هوارد، حول كتاب بارت «لذة النص» كما يلتقي مع دراسات نقدية كثيرة في كتبه.
وإذا، ما تناولنا أحد كتبه، وهي الأكثرها تداولاً «لذة النص» وحين نقرأ ما كتبه رولان بارت نفسه عن هذا المؤلف، بحسب ما قدمه المترجم والباحث السوري الدكتور منذر عياشي نجده -أي بارت «يقول» يبدأ النص غير الثابت، النص المستحيل مع الكاتب، (أي مع قارئه) القراءة تجعل المكتوب بدايات لا تنتهي، إنها تكوّر المكتوب على نفسه، فهو لا يزال يدور بها، حتى لكأن كل كتابة فيه تظل بداية، لذا كانت نصوص القراءة هي نصوص البدايات المفتوحة: إنها تكتب وتقرأ، لكنها لم تبلغ كمالها كتابة، ولا تمامها قراءة، ولعل هذا هو السر في أنها كانت نصوص لذة، مثل هذا الكلام الذي يبدو غامضاً بعض الشيء في معظم ما صدره بارت من كتب، يضيء على جهد استفاد من المناهج التاريخية والاجتماعية، وهو جهد معرفي، أشرك فيه بارت المتلقي، بوصفه ليس قارئاً فحسب وإنما متلق إيجابي وكاتب في الوقت عينه، وهو الفضاء الذي قصده من وراء مصطلحه «لذة النص» أي جعله متاحاً بناء على تفاعل القارىء معه، وهو بالضرورة تفاعل فكري وروحي وثقافي، يجد القارئ نفسه فيه، فتتحقق رغباته وطموحاته، كما تتحقق لذته، حيث نص اللذة كما يؤكد د. عياشي «ينتقل إلى عالم المتعة العقلية الذهنية».
واضح من هذه المقارنة، أن المتلقي بالنسبة لبارت، هو أحد منتجي النص، وأحد المساهمين في إنشائه، وقد درس النقاد هذه العلاقة، في ضوء ما بات يعرف بالبعد الثالث للقراءة عند بارت، وهي التي تندرج تبعا لثلاثة مفاهيم أساسية: (مفهوم النص ومفهوم الكتابة ومفهوم القارىء). ولفهم هذه العلاقة، فإنه لا بد من استيعاب كل ما كتبه رولان بارت، ومن ذلك مثلاً ما قاله ذات مرة «الكتابة ليست شيئاً سوى بقايا الأشياء الفقيرة والهزيلة للأشياء الرائعة والجميلة في دواخلنا».
في مؤلفه «الكتابة عند درجة الصفر» الذي ينقسم إلى جزءين، الأول يحتوي على أربع مقالات قصيرة، يوضح بارت من خلالها مفهوم الكتابة بعيداً عن كونها أسلوباً أو لغة فقط، وفي الجزء الثاني يتناول أنواع مختلفة من وسائل الكتابة الحديثة، كما ينتقد كتاب الواقعية الاشتراكية من الفرنسيين، ذلك لأن هذه الكتابات من وجهة نظره تتكئ على الاستعارة الأدبية التقليدية، لذا فهي تقف على الجانب الآخر من القناعات الثورية في الكتابة، ويمثل على ذلك بفقرة مما كتبه المفكر الفرنسي الشيوعي روجيه غارودي، حيث يصف بارت كتاباته بأنها جيدة، ولكنها لا تتجاوز النمط المستهلك من الأدب.
اعتبر مؤلف «الكتابة في درجة الصفر» بحسب النقاد أحد المفاهيم المعيارية التي فرضت حضورها في المصطلحات النقدية، وقد برع بارت في هذا الكتاب في توصيف الدلالة، التي برأيه تعالج منظومات لها أبعاد عميقة تمر عبر اللغة.
في كتابه «ميثولوجيات» الذي وصف بأنه من أهم أعماله واسعة الانتشار كتبه بارت في 1975، وهو عبارة عن مجموعة نصوص من أربع وخمسين مقالة، كتبت بين الأعوام 1954 و1956 حين كان يعمل بارت صحفياً، وفيه يسلط الضوء على كثير من أنماط الثقافة الشعبية، غير أن أهم ما في هذا الكتاب هو المحور الذي يتحدث عن الأسطورة المعاصرة، التي تحاول أن تجمع بين مختلف أشكال الأسطورة، ومن العناوين التي اشتملها الكتاب: عالم المصارعة، الرومان في الأفلام، الكاتب في عطلة، والذي هو عبارة عن مقال نشره بارت في صحيفة لوفيغارو الفرنسية عن رحلات أندريه جيد في الكونغو، وهناك: الفقراء والبوليتاريا، ومساحيق الصابون والمنظفات، ودومينيتشي أو انتصار الأدب، ودماغ اينشتاين، والرجل النفاث، والزينة في المطبخ، والبلاستيك وغيرها من المقالات التي تفتح شهية القارئ على معاينات من الحياة اليومية، التي كان بارت يسعى من ورائها، لتسليط الضوء على العامل المشترك مما فيها من مضامين أو بعبارة أصح ما فيها من إشارات وعلامات تعبر عن وظيفتها في سياق استخداماتها الشائعة بين بني البشر.
في سياق احتفالات فرنسا بكاتبها الكبير، أقيمت ندوات ولقاءات حوارية، من ضمنها أيضاً معرض افتتح في «مكتبة فرنسا الوطنية» استمر حتى 26 يونيو/تموز الماضي، بعنوان (كتابات رولان بارت، بانوراما)، وهي احتفالية تليق برولان بارت بحسب منظميها الذين استذكروا هذا الكاتب في سنته المئة، قال الكاتب عبده وازن عن هذه الاحتفالية قد لا تحتاج فرنسا إلى أن تستعيده في هذه الذكرى فهو حاضر، وقد زاده رحيله عام 1980 حضوراً، سواء في المعترك النقدي الذي كان ولا يزال واحداً من رواده أم في عالم الأدب والكتابة الحرة والمفتوحة الذي كانت له فيه مغامرة رائدة وفريدة، لا سيما عبر فتحه أبواب هذا العالم على «ميثولوجيا» الحداثة والتجريب.
________
*الخليج الثقافي