*حسن نصّور
الكتابة بحسب رولان بارت اشتهاء والسلطات بالتأكيد لا تريد من الكاتب أن يفصح عن رغباته في السياسة والجنس، لذا فإن استفحال الرقابة قد يكون القضية الأولى في العام الثقافي.
كثرت، في العام المنصرم، قضايا الرأيّ في العالم العربيّ وتحديدا القضايا التي تكون الكتابة هي موضوعة استهدافٍ للرقابة بشتّى تمظهراتها السلطويّة. (الكاتب الموريتانيّ محمد شيخ ولد محمد، الشاعر الفلسطينيّ أشرف فياض، الروائي المصريّ أحمد ناجي.. مثالا لا حصرا)
أقول تستحضرني بشدّة، وأنا أُنشِئ هذا النصّ وأفكر في إبداء رأي يتّصل بمفهوم السلطة الرقابيّة العربية، مقولةٌ للمفكّر والناقد الفرنسي رولان بارت (1915-1980) ساقها في باكورته «الكتابة بدرجة صفر»(1953). يقول بارت: «نكتب بشهوتنا وأنا لا أنتهي من الاشتهاء». يقيم هذا القول الشهوةَ، بما هي إمكانٌ ذاتي جسدانيّ يتسم بقدر هائلٍ من التفلت والغموض والسحر، أداةً لعمليّة الكتابة. الشهوة، في هذا الحيّز، مجالٌ إيجابيّ، غير مستلب، لا يخضع للتنميطات، ويستدرج، تاليا، مطلق عمليّة كتابية إبداعية إلى مربّعاتٍ من المتعذّر على الرقيب الذاتيّ الداخليّ فضلا عن الموضوعيّ الخارجيّ إخضاعها لدفاتر شروطه. إنها، أعني الشهوة، فطرة سلطويّة وسلطة فطريّة تغالب كلّ المنازع التي تنحو إلى جعلها مطواعة أو محدودة أو خاضعة لتصورات الرقيب، مطلق رقيبٍ، حتى تصل، في مسارات مخصوصة، إلى درجةٍ تقود فيها اللغة أو الكتابة بمجملها إلى مسارب لا تكون في حسبان المؤلف. ذلك أن اللغة، مطلقَ لغةٍ، إذ تخضع، بالنتيجة، لتحولات تراكمية تاريخية، فإنّها تغدو، هي ذاتُها، رقيبا آخرَ على الذات أو سياجا يدافع انفلاتات الشهوة منها وبها.
الإبداع
نتحدث، إذا، عن الابداع الذي لا يفترض به أن يقيم أوزانا مطلقة للسياقات الموضوعية التي تواضع مؤّلّفو التراثات اللغوية على تقريرها أساليبًا وجعلها، في الخلاصة، سلطاتٍ ضمنية. الشهوة، بهذا المعنى، إدخالٌ للكتابة في مجاهل وأدغال تنقذ المتونَ من الرتابة وتفترض، في أحيان كثيرة، طفراتٍ إبداعية، تتقّوم بها فنون القول والصياغة.
يقول الرقيب القضائيّ، مثالا، في ما يتصل بإحدى قضايا الأدب المثارة مؤخرا، وفي جملة الاتهام المساق ضد الروائيّ ما نصّه يتحّمل دلالات فوق ظاهر الكلمات. يحيل متن الاتهام، في العمق، إلى التفكير البدهيّ في آليات اشتغال السلطة الرقابية وخطابها التحتيّ، ماضيا وحاضرا. «إن المتهم نشر مادة كتابية نفث فيها شهوة فانية ولذة زائلة، وأجر عقله وقلمه لتوجه خبيث حمل انتهاكًا لحرمة الآداب العامة وحسن الأخلاق والإغراء بالعهر خروجًا على عاطفة الحياء». عمليا، تقيم الشهوة، من منظار الرقابة العربيّة الراهنة، وبما هي استيهام جنسي حصرا (في الفهم التراثيّ)، في مربع المحظور الذي يحيل، مرارا وتكرارا، على الثنائية الاخلاقوية التراثية، ضلالة/ هداية، حسن/ قبيح. الشهوة، بما هي امتياز بشريّ، فردانيّ، حميميّ جدا، تظل في التصور العربي، مستلبة لحيز الجماعة العام بتفريعاته السلطويّة والحقوقية. إنها مفهوم عامّ لا يجوز الاشتغال في تأويلاته واستخداماته من خارج دفاتر السلطة النصّيّة الفقهائية التي تقيم تحت جناحها الحُكميّ مختلف وسائل الانتاج البشري على تنوعه.. ثقافة أو سياسة أو سوسيولوجيا. لا تكون الشهوة، بحال من الاحوال، تلك الموهبة التي قد توظِّف الذوق البشري بحرية تفوق التصور في مجمل العملية الكتابية. تلك العملية التي من المفترض أن تنحو إلى الاكتمال بمقدار مجالات الانعتاق والاستقلال التي يتيحها فعل الاشتهاء.
الرهاب
في هذا الحيّز، ولسوء الحال والمآل، يقيم الرهاب الرقيبيّ القضائيّ المقونن والمستمَدّ من مجمل نصوص التراث الرديفة المفسِّرة، في مربع التسطيح. مربّعٌ يعبَّر عنه بأشكال مختلفة، تبدأ في شكل شائع من فوبيا الالفاظ التي تصور الاعضاء الجنسية أو العملية الجنسية كتابةً، ولا تنتهي في ذلك الشكل البائس من عدم القدرة على استيعاب السياقات الاسلوبية الكتابيّة الحديثة، فضلا عن تلك السياقات التراثية التي هي، في الاصل، مقلع هذا المعجم وكهف استيهاماته التخييليّة. نتحدّث عن رهاب مؤسَّس في الاصل على قاعدة الصلاحية الاخلاقوية التي تتيح لافرادٍ، هم السلطة بالنتيجة، تقرير المعاجم اللفظية والسياقات الكتابية، كاملة أو مقتطعة، التي من الواجب وضعُها وإدراجها في جدول الشرعنة قبل استخدامها. بهذا المعنى، نكون أمام ما يشبه كاتالوغات تحنيطية لا تنتج إلا النموذج المتهالك للكتابة. والنتيحة، بالضرورة، اننا نواجه أدبا يباسا هو، في الواقع، شكل من أشكال الانقلاب على إمكانات اللسان العربيّ التخييلية الأوّلية المشاعة للمستخدمين. إنه انقلاب، في العمق، على إبداعية النصّ العربي المؤسس أيضا: القرآن بما هو فضاءٌ تتفلت في آياته نسب هائلة من ذلك الاشتهاء التخييليّ الخلاق الذي ينحو لبناء القول الفارق المفْحم الذي هو مكتفٍ بذاته وبسحره، ولا يكون خاضعا، بالكامل، حتى لسلطة المرسَل، فضلا عن كونه ذلك النص الذي تتفشى في ثناياه، توظيفا وتحويرا وخطابا، كل الاستيهامات البشريّة. إنها إمكانات تخييليّة غفل عنها بعد قرون طويلة، لاسباب موضوعية ومادية وسوسيولوجية، ورثة ذلك النص المؤسّس. وتكفي نظرة على بعض الآيات، مثالا لا حصرا، حتى نبني تصورا وافرا عما يفترض أن تحيل إليه، في الاذهان، تلك التراكيب «فلمّا تغشّاها حملت حملا خفيفا»(الأعراف: 189)، «ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها/ فنفخنا فيه من روحنا» (التحريم)، «ولقد همّت به وهمّ بها لولا ان رأى» (يوسف)، «قد جعل ربّكِ تحتك سريّا» (مريم)، «نساؤكم حرثٌ لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم»(البقرة)..
المعجم
يردف الرقيب في تلك القضيّة ما يلي: «المتهم خرج عن المثل العامة المصطلح عليها، فولدت سِفاحًا مشاهد صورت اجتماع الجنسين جهرة، وما لبث أن نشر سموم قلمه برواية أو مقال حتى وقعت تحت أيدي القاصي قبل الداني والقاصر والبالغ». والحال، يقيم العقل الرقيبيّ، بخلاصته الراهنة، في هاجس ابتكار الآليات لحشر تيمة الجنس كنتاج للشهوة في المساحة المحصّنة المتوارية تحت أردية الدستور الاخلاقوي المفترض. هذا الحشر يفاقم بالضرورة تدافعات التفاعل البشريّ الطبيعيّ بمجمل صور هذا التفاعل التعبيرية الجسدية. لا نتحدث فقط عن مفاهيم الكبت ومآلاتها بل نحيل، في العمق، إلى واقع المعجم الجنسيّ/ الجنسانيّ العربيّ البالغ الثراء ذي الباع التراثي الطويل في كونه مستخدما من حيث عمليات الاشتقاق والتصوير. والحال، أن المعجم هذا المعجم يقع، اليوم، نتيجة لعوامل سوسيو- تاريخية في نوع من الاغتراب. إنّه، بحالته ومجالات استخداماته الحالية منتَج لتلك البطريركية الرقابية وفي الوقت نفسه هو منتِج لحالتها الراهنة إذ يغالب هذا المعجمُ، بثرائه وتفلتاته وحاجاته كي يتفشى داخل المساحات الطبيعية، سلطةَ الرقيب. هذا التدافع الذي لا ينحو إلى الحسم، بحال من الاحوال، يكون مؤشرا بالضرورة وفي العمق على التواءات وتفاوتاتٍ في المبنى أو البيئة الاجتماعية العربية الحديثة. نعني التفاوت بين الحاجة الفردية الملحّة لاستثمار العيش والتنفس في المدينة المعاصرة بكامل شرائطها (ومنها الاشتهاء كتابة) إلى أقصى الحدود من جهةٍ وبين استشراس السطوة الرقابية السطحيّة والفاعلة من جهة أخرى.
أقول، خلاصةً، لمعجم الشهوة الثريّ أو بسواه من المعاجم، علينا أن نسعى راهنا إلى كتابة هي غاية نفسها، كتابة تكون اشتهاءً حرّا مطلقا، إلى نصّ يظلّ في سعيّ ذاتيّ حثيثٍ للاكتمال.
________
*السفير الثقافي