تشيخوف والاغتراب


*د. عواطف نعيم

يعدّ الكاتب المسرحي تشيخوف واحداً من أبرز كتّاب المسرح في العالم من الذين جعلوا مادتهم الأولى في الكتابة المسرحية الإنسان ..همومه ..تطلعاته ..أحلامه منطلقا من عمق روحه ومشاعره مقتربا من أدق التفصيلات اليومية التي قد تبدو بسيطة لكنها تمتلك دلالاتها ومعانيها لواقع حياته وتفكيره ولطالما بدت لنا شخوص تشيخوف المسرحية دائمة السؤال كثيرة الكلام في كل شيء وفي اللاشيء مغلفة بالأسى مؤرقة بالقلق والعذاب.

ففي العديد من المسرحيات التي كتبها تشيخوف نجد شخصياته .. الخال فانيا ..سونيا وتروفيموف ورانفسكايا في بستان الكرز وتربليوف ونينا في طائر النورس وأولجا وماشا وايرينا في الشقيقات الثلاث نجدهم يشعرون بالحنين إلى الماضي الذي لن يعود ويتساءلون عما يحيط بهم وعن جدوى ما هم مقبلون عليه. تبدو الدهشة والتعجب في حواراتهم حين يثرثرون وحين يتألمون أو حين يثورون أو في لحظات العشق هناك دائما علامات استفهام تغلف احاديثهم تتجلى حينا وتتخفى حينا آخر لكنها علامات محسوسة مسكونة بالسؤال لحالات الضياع، من هنا تتبدى شخصيات تشيخوف وكأنها تبحث عن معنى لحقيقة وجودها كأن كل ما يحيط بها لا يمت لها بصلة أو هي تحاول أن تجعل كل ما يحيط بها بعيدا عنها .أي أننا نلاحظ أن السمة الغالبة في مسرحيات تشيخوف هي حالة الاغتراب والضياع والحنين ، وهذا يدفعنا كي نبحث في حياة تشيخوف لنقترب من فهمه أكثر، وهذا بدوره يقودنا لنتساءل من هو تشيخوف ؟ 

تشيخوف . النشاة .الكتابة
ولد أنطوان بافلوفتش تشيخوف عام 1860 في تاجانروج وكان جده عبداً لأحد الإقطاعيين اشترى حريته وحرية عائلته أبوه بافل ظل يقتصد ويقتطع من أجرته حتى افتتح لنفسه حانوت بقالة ويبدو أن نمو الشخصية في مسرحيات تشيخوف له ما يبرره في حياته العائلية فقد كان جده ذا شخصية قوية له السيطرة المطلقة على البيت وقد حمل تشيخوف أعباء الأسرة مبكرا، كان الأب بافل يقسو على أولاده حتى ان تشيخوف قال لمدير المسرح المخرج دانتشنكو ( إنني لم أستطع أن أغفر لأبي جله إياي ) طفولة تعيسة قال عنها تشيخوف ( لم تكن في طفولتي طفولة ) وحرمان عاطفي وجوع إلى طفولة حقيقية بلهوها وعبثها ظهرت آثاره في كتاباته ولم يكن أمامه إلا ان يثأر من الحياة المؤلمة بالسخرية منها وتحتفظ روح الفكاهة التي تسود في مسرحياته بطعمها المر اللاذع , ولم تترك النشأة الدينية التي حاول الأب بافل إخضاع أطفاله لها جلبت آثاراً عكسية ،فقد كان التدريب الشاق الذي يأخذهم به مع أفراد الفرقة الكنسية التي كونها من الحدادين شيئا لا يطاق .يقول تشيخوف ( كنت أنا وأخواي حين نقف معا في الكنيسة لنرتل نشعر كما لو كنا صغارا مذنبين يؤدون طوال الوقت أشغالا شاقة ). وإذا كان بعض أبطال مسرحياته يحلو لهم ان يمنوا أنفسهم بالسعادة في السماء فليس هذا من قبيل الإيمان وإنما هو نوع من الإفلاس والاطمئنان الخادع , وقد أثرت حادثة في حياته وانعكس تأثيرها في أدبه حين بارت تجارة الأب واضطر إلى الهرب لموسكو بعيدا عن الدائنين .وعاشت الأسرة في حي تسكن فيه العاهرات في بؤس , أما تشيخوف فقد بقي في تاجانروج يتم دراسته الثانوية , ووعد سيلفيانوف الموظف المقامر الذي يسكن بيت الأسرة ان يسدد ديونها وقد فعل إلا انه استولى على البيت وسمح لتشيخوف ان يحتل ركنا صغيرا فيه لقاء ما يعطيه من دروس لأخيه الصغير وهكذا اصبح الفتى تشيخوف غريبا في داره , ثم حصل الفراق النهائي حين التحق بالعائلة في موسكو , لذا كثيرا ما نقرأ في قصصه ومسرحياته وداع المرء لبيته ويقرأ الساكن الجديد في البيت القديم قصة مأساة من رحلوا وقد يترك الراحلون , بعض الذكريات المتمثلة في دمى صغيرة أو بقايا زهور يابسة , بيت قديم عزيز لكن فيه عرف القيد وقسوة الأب , أما الحياة فتدعوه إلى الحرية ولعبة المستقبل وإرادة العيش ,هكذا تختلط في نفسه مشاعر حنين وألم ومتعة ,تحضر في لحظات الوداع ثم ما تلبث ان تتحول إلى جزيئات حوارية مشخصة في مسرحياته ولنأخذ هذا المثال من مسرحية بستان الكرز : 
أنيا : وداعا أيها البيت .. وداعا أيها الحياة القديمة
تروفيموف : مرحبا بالحياة الجديدة
ولنأخذ شخصية رانفسكايا أكثر أبطال مسرحية بستان الكرز تعلقا بالبيت القديم والحنين إلى الماضي فهي تقول :
رانفسكايا : وداعا يامنزلي العزيز , يا حبنا القديم , سيمضي الشتاء وعندما يحل الربيع لن تكون هناك فسوف يهدمونك , ما أكثر ما رأت هذه الجدران.
على ان الأب بافل استطاع ان يؤمن لأولاده ثقافة جيدة جعلهم يتحدثون الفرنسية بطلاقة فقد أحضر لهم أستاذا في الموسيقى ولكن ما كان من خير في صنع الأب أفسدته سوقية الطبقة المتوسطة،ولذلك نجد تشيخوف يثور على أخلاقيات هذه الطبقة وفسادها ,كما يرفض الطبقة الأرستقراطية التي استعبدت جده وكان لابد لهذه الأنقاض من بديل وكان هذا البديل واضحا في مسرحياته ولاسيما في بستان الكرز والشقيقات الثلاث , وكان تشيخوف طبيبا آمن بالتجربة والعمل والتفكير العلمي ولربما كان لعمله اثر كبير في اتجاهه الواقعي ( ان تشيخوف لايعبر عن ثورية برسم صورة للمثل الأعلى الأمر الذي يعتبر ماسا بإحساسه بالواقع , ولا بمجرد محاكاة الواقع الأمر الذي يعتبر ماسا بهدفه الأخلاقي وإنما كان يعبر عن ثورته بنقد الواقع في نفس الوقت الذي يعرضه فيه، فهو لايعلق على الواقع وإنما يجعل الواقع يعلق على نفسه ) . لقد عالج الأشياء في كثير من الدقة والهدوء بعيدا عن العاطفية , كان تشيخوف يرصد الأحداث التي لا تثير الاهتمام وجزئيات الحياة اليومية ليصل في مسرحياته من إإعراض الحياة العادية والعلاقات الإنسانية البسيطة إلى تحديد المعنى الكبير الذي هو توق الإنسانية وأملها. ويعتبر مسرح تشيخوف أول خروج على المسرح الأرسطي فقد قدم مسرحا جديدا اعتمد فيه توزيع التركيز على عدد كبير من الشخصيات متجنبا الأنماط الشخصية المسرحية السائدة والأحداث العنيفة غير العادية والمباشرة في معالجة المواقف. هذا الخروج تأصل في ما بعد على أيدي كتاب الطليعة أسماه النقاد بمسرح الشخصية . ولمعرفة العلاقة ما بين تشيخوف ومفهوم الاغتراب الذي تجلى في كتاباته المسرحية ستكون لنا وقفة أخرى.
_________
*(المدى)

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *