شارع المتنبي: ابتسامة العراق الثقافية



علي عبيدات*


خاص ( ثقافات )

الميلاد والورثَة

كعبةُ المثقفين، تحفةٌ عباسية، ظلُ العراق الثقافي، ركنُ المقاهي الثقافية والجلسات الفكرية، جريدةُ العراق وأخبارُ آدابه.. الكثير من الأسماء والصفات والألقاب التي تتداعى أمام من يجتاز مئة متر من الكتب، وتتردد على مسامعه أبيات شعر وأثمان كتب وأسماء مؤلفين وعناوين بلغات مختلفة، في جو يصور لنا خطوات الجواهري والرصافي والسياب وبولص وبلَّند ومظفر وعبد الرزاق والبياتي وحتى الشيخ زاير والكرخي، وكل وجوه القصيدة العراقية وأباطرة روايتها وقصتها ونقدها وتشكيلها ومسرحها وموسيقاها، بخليط عجيب من الإرث الثقافي والحضاري منذ بابل والآشوريين وسومر والأكاديين وسلاسل أور، ليكون الشارع نفيراً حضارياً رغم مساحته القصيرة.

سمي الشارع رسمياً باسم “المتنبي” شاعر العرب الأكبر في عهد الملك فيصل عام 1932 ليرى من يصل عتبة الشارع نقش “الخيل والليل والبيداء تعرفني، والسيف والرمح والقرطاس والقلم” وهو يقف بمهابة وإجلال الامتداد الحضاري والتاريخي للعراق منذ أول إشراقة للشمس حتى عصر القلاقل الذي يعيشه العراق، فقد اعتُدي على الشارع بعد غزو العراق أكثر من مرة، وواجه المثقفون العراقيون هذه الاعتداءات بزيارات أكثر لهذا الشارع الذي أصبح طقساً عراقياً خاصاً كل يوم جمعة، يجتمع فيه العراقيون تحت عنوان واحد “الثقافة العراقية”.

ابتسامةٌ بين البُكَاء

تجلس الكُتب بين خطى الزائرين، كل كتاب في ركنه وبين عائلته، هنا كتب القانون وهناك الأدب العربي والمخطوطات وبينهما كتب الطب التي يتسابق الطلاب عليها ليحظوا بنصيحة البائع الخبير بشؤون الورق والطب بعد طول إقامته بين التشريح والتخدير والجراحة، كتب في كل مكان ومن كل مكان وجنس ولغة يبدأ ثمن الكتاب بدولار واحد ويزيد بعدها على غرار حجمه وعدد أوراقه بين صفراء نادرة وبيضاء تعاصر تطور الشارع وعصرنة الوراقين هناك.

في شارع المتنبي، لا يسمع المتجول بين الكتب أي حديث عن طائفة أو عرق أو دين، ففي المكتبة الأولى مندائي من العمارة اختص بكتب القانون الملونة كطوب مدينته، وبعده بقليل مسيحي من الشمال يبيع كتب الطب وروايات التضحية، وبعده بقليل مكتبة فيها الكتب الإسلامية القديمة والنقد الديني، ومقابله يجلس إزيدي من أطراف الموصل يبيع كتب الصيدلة وفي جعبته حكايات سنجار، وغيرهم من أبناء هذا النسيج الذين ينسون من أين هم وما أديانهم ومواقفهم السياسية في هذا الشارع، فالشارع عراقي فقط.

روادٌ على نصف ساق

تحية لا إرادية يقدمها من يمر بشارع المتنبي عندما يثني ركبته، أو يقف على ساق واحدة ليقلب أحد الكتب الممددة أمامه مستفهماً عن الطبعة أو دار النشر والثمن، ويجيبه البائع المنهمك مع متسوق آخر بسرعة مفرطة بعد معاشرة طويلة مع هذه الكتب التي يراعيها كأبنائه، لتشكل هذه التفاصيل حالة وجدانية لها أن تحفز شاعراً من مئات الشعراء المارين على كتابة قصيدة، أو تخلق مشهداً روائياً من وحي رائحة الحبر والورق الأصفر ووجوه الباعة المليئة بتفاصيل المكان وتقلبات الزمن عليهم في مطبخ العقل والثقافة العراقية.

ومن رواد الشارع وعشاق تفاصيله الروائي خضير فليح الزيدي، الذي يروي لثقافات ملخَصاً عن علاقته بهذا الشارع، ليقول: “لا أهمية مطلقة للمكان بغياب المكين، هذا الشعار الفلسفي ينطبق على شارع الثقافة البغدادية المسمى بشارع المتنبي الشهير وطقوس رائحة الكتب في كل جمعة”.

ويضيف الزيدي في باب صحوة الثقافة العراقية عبر شارع المتنبي: “ثمة انتعاش ملحوظ في نهضة ثقافية بدأت تتعافى في شارع خلفي بعيداً عن رائحة الحرب الدائرة في عموم البلد، لذا أصبح لزاماً عليَّ في الحضور الصباحي كل يوم جمعة لهذا الشارع المعفر برائحة حبر الكتب ورواده من قراء وكتاب وباعة. ولا أتخلف مطلقاً عن موعد اللقاء هذا. بغداد قد تغيرت كثيراً ولم يبق منها سوى شارع الثقافة كالمعقل الأخير والحصن المنيع للحفاظ برائحة بغداد الثقافية. كأنها بذلك ترفض كل تقانات الحداثة وتبقي رايات معلنة من الورق الأصفر”.

ويعتبر الناقد والأكاديمي نجم عبد الله كاظم شارع المتنبي الذي يرتاده منذ سنوات متنفساً أخيراً للمثقف العراقي: “معروف أن شارع المتنبي يشكل اليوم رمزاً للكِتاب العراقي، وإن شئتَ فقولوا مصيبين رمزاً للثقافة العراقية والمثقفين العراقيين. ولهذا ليس غريباً أن يتردد عليه أي مثقف أو كاتب أو مبدع أو ناقد أو قارئ، بل يكون غريباً إنْ وجدتَ مثقفاً لا يفعل ذلك”.

وعن إدمانه لشارع المتنبي يضيف الدكتور نجم عبد الله كاظم: “وهكذا أنا من مريدي هذا الشارع، ولكني وبسبب الانشغال والعمر والظروف لست من المترددين الأسبوعيين، ولكني، على أية حال، أعشقه وأتردد عليه، بل أجد نفسي فيه، على الأقل حين يعوضني عن فضاءين أنتمي إليهما من حيث أريد أو لا أريد، الأول هو بغداد والعراق اللذين أفتقدهما اليوم كما كنت أعرفهما من قبل، بسبب ظروف البلد المعروفة، والثاني اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين الذي يُفترض مبدئياً أن يكون هو بيتي الثقافي. أقول ذلك لأن شارع المتنبي يختلف، في عدم وجود أي شكل من أشكال الهيمنة الفئوية والشّللية عليه، عن الاتحاد في أمراضه من شللية وهيمنات فردية تقرر من الأديب والكاتب، ومن الذي يمثل الثقافة العراقية أو الأدب العراقي أو الرواية العراقية أو القصة العراقية أو النقد العراقي، مما لا يكون غالباً حقيقياً أو دقيقاً، لأنه يكون عادة من إفرازات الشّلل المهيمنة وأحياناً أفراد معينين. وهكذا فشارع المتنبي هو، إن شئتم، المتنفّس الحقيقي للمثقف، وهذا ما أحسّه حين أكون فيه”. 


أما الروائي والمترجم غسان حمدان، فتحدث عن علاقة قديمة مع الكتب المترامية على أطراف هذا الشارع ليقول: “كنت أتردد على شارع المتنبي وأنا طفل بالكاد أتعرف على الدنيا، وكنتُ أشعر بحميمية ودفء من نوع خاص كلما رأيت أبي يقلب الكتب ويبتسم -إذا أعجبه- أو تتبدل علامات وجهه بين وجوم ورفع لحاجبيه -إذا نفر منه- فعرفت عندها أن الكتب كائنات حية مثلنا تماماً، نغضب ونضحك منها ونشعر بها ونحتاجها، الأمر الذي جعلني فيما بعد عاشقاً للكتب وضيفاً دائماً على شارع المتنبي”.

ويضيف غسان حمدان أمنية ورسالة تخص شارع المتنبي: “هذا شارع لا يتجاوز مئة متر ويلتف الناس حوله كهوية وطنية للجميع، ومن جملة أحلامنا بعودة العراق فتياً دون منغصات وصراعات أن يكون شارع المتنبي ركناً كبيراً من أركان العراق الآمن والمؤهل للمثاقفة والفكر بأمن وسلام”.

أما الرحالة والشاعر باسم فرات، فرغم رحلاته وأدب الرحلات الذي لا يكف عن إثرائه بأخبار ترحاله حول العالم إلا أن شارع المتنبي ما زال في ذاكرته التي لم تنسَ شارع المتنبي رغم الأسفار والمنافي، ليقول: “ارتبطت طفولتي ومراهقتي بشارع المتنبي وبتلك الزيارات الخاطفة إلى بغداد وشارع الرشيد تحديداً، وكان سوق السراي أكثر شهرة منه، ومكتبات بيع الكتب في شارعَي الرشيد والسعدون لها الأولوية، لكن هذا الشارع بدأ ينمو بمرور الزمن، وحين هاجرت إلى الأردن ومن ثم جعلت اللااستقرار استقراري وهاجسي، كانت أخبار شارع المتنبي تُشعل الحنين فيّ لقضاء يوم الجمعة صباحاً وظهراً فيه، بين مكتباته وأدبائه وفنانيه ومثقفيه وأماكنه الثقافية والاجتماعية”.

وحول جماليات شارع المتنبي واحتشاد الناس فيه، يضيف باسم فرات: “في شارع المتنبي، يلتقي الجميع، تحضر الحياة بكل عنفوانها، وتتحاور مع مؤلفي الملاحم والأساطير وكبار الفلاسفة والمفكرين والشعراء والأدباء والمؤرخين والآثاريين والنقاد، فلا موت في شارع المتنبي، مؤلف ملحمة جلجامش وسقراط وأفلاطون وأرسطو وأسخيلوس وهيرودوت وسترابو وبليني وشعراء ما قبل الإسلام وما بعد ظهوره، شعراء وأدباء وكتاب من الأزمنة والعصور والأمم واللغات جميعها، تجدهم في هذا الشارع الذي هو فاعلية واحتفالية ثقافية بالكتاب والكاتب وبالفنون والثقافة عموماً”.


وللشاعر عبود الجابري رأيه وجولاته بين أسواق الكتب، لكنه يؤكد على خصوصية شارع المتنبي ويقول: “ثمة شوارع كثيرة تختص ببيع الكتاب في البلاد العربية كسوق الأزبكية في القاهرة ونهج الدباغين في تونس وشارع زهران في عمّان وحي أكدال في المغرب لكن شارع المتنبي ظلَّ يحمل خصوصية اسمه على مدى عقود طويلة من الزمن، تلك الخصوصية تحمل أسبابها التي يعرفها العراقيون وحدهم، فهو المكان الذي يؤمه من تريد العثور عليهم في مصادفات أكيدة، وهو المكان الذي يمكنك أن تعثر فيه على ما هو ممنوع من الكتب إبان خوف الأنظمة من تناقل الكتب والقصائد”.

وحول الباعة واحترافهم للمهنة، يضيف عبود الجابري: “كما أن الباعة هناك يعرفون بضاعتهم ظاهرها وباطنها، فهم قراء قبل أن يكونوا باعة كتب ويمكن لأي منهم أن يحدثك عن الكتاب الذي تنوي أن تقتنيه بطريقة القارئ الفذ، شارع المتنبي كان شاهداً على فجيعة مكتبات أصدقائنا الأدباء خلال فترة الحصار الاقتصادي، حين اضطر كثير منهم إلى بيع رأسمالهم الوحيد (كتبهم)، وعنواناً على المجاهرة بتحدي الإرهاب بعد أن تم تفجيره في يوم أسود من أيام آذار 2007، وعاد ليعمر بعدها”.

وفي مدى الشارع أيضاً، خطوات للشاعر والإعلامي عبد السادة البصري الذي يتنفس من رئة شارع المتنبي ويقول: “للمتنبي وقع خاص في نفس كل عراقي وبالأخص المثقفين، إذ يعتبر الرئة التي نتنفس منها عبق القراءة والانفتاح على العقل الآخر من خلال ما يرد لمكتباته وما يصدر عن دور النشر الموجودة فيه، المتنبي النافذة الثقافية المُطلة على إبداعنا وإبداع الآخرين في كل بقاع العالم، فهو خيط التواصل بين الجميع”.

ويضيف عبد السادة البصري في خصوصية الشارع: “لهذا تجد أن وقعاً خاصاً له في نفوسنا جميعاً، فيه نجد ضالتنا من الكتب التي نريد، فهو امتداد تراثي وحضاري للثقافة العراقية بشكل كبير، وعلى غراره وتأثراً به افتتح أكثر من شارع ثقافي في أغلب محافظات العراق، كما حدث في البصرة وميسان والديوانية وكركوك والسماوة وغيرها، وسيبقى للمتنبي الشارع ذلك الوقع الكبير وتلك العلاقة الوشيجة بينه وبين جميع المثقفين والقراء.

ويواظب شارع المتنبي مسيرته بهمة عراقية، تجلت بعد ترميم الخراب الذي ألمَّ به عام 2007 بهجمة إرهابية ظلامية، ليقف العراقيون هناك بين عازف للموسيقى وباحث عن معرفة ومرتادٍ للمقاهي الشعبية التي تصدح بأغاني ناظم الغزالي وفيروز وسعد البياتي، فالأبوذيات تنوب عن صوت التفجيرات والمواويل تنأى بكل مدافع الدنيا عن مسيرة العراق إلى النور بعد سنوات طويلة من الحرب والدم.

*شاعر ومترجم أردني.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *