*عماد فؤاد
حدث هذا في ظهيرة ساخنة ذات يوم من صيف العام 1996، كنت صاعداً درج مبنى عتيق في حي غاردن سيتي القاهري، أرتقي الدرجات مضطرباً. لا أعرف إن كان اضطرابي بسبب الحر الشديد، أم بسبب ارتباكي الذي يتصاعد بداخلي كلّما صعدت درجة على السلم، في الطابق الثاني أتوقف أمام باب خشبي طويل عن يمينه عُلِّقت لوحة معدنية مربَّعة، كتب فوقها اسم الصحيفة العربية «الحياة» بخط جميل. بحثت بعينيّ عن زر جرس الباب، وحين رأيته تردّدت في رفع إصبعي إليه، كانت الرهبة بدأت تتصاعد دقاتها بداخلي كما لو كانت آلاف الطبول التي تدوّي في غابة ما. وبدأت أسمع صوت أنفاسي يتردّد على سلم البناية. فكرت في أنني إن ضغطت الجرس فسوف أكون بعد قليل أمام إبراهيم أصلان، سأصافحه وأعرِّفه بنفسي وأقول له إنني كتبت هذه المادة الصحافية عن معرض تشكيلي مقام حالياً في وسط المدينة. من المؤكد سيتناولها مني ويشكرني بأدب من دون أن يلقي نظرة عليها وهو يقودني إلى باب الخروج، ليغلقه خلفي ويرمي بما كتبته في أقرب سلة مهملات. لحظتها سمعتُ صوت أقدام تهبط السلم قادمة من أحد الأدوار العليا، فتوقف قرع الطبول في الغابة، وزادت حبّات العرق فوق جبيني، وبأصابع مرتعشة وجدتني أتناول المقال المكتوب بخط يدي من داخل حقيبتي المعلقة على كتفي، لأضعه في مظروف ورقي أصفر اللون وبصحبته صور عدة لبعض الأعمال التشكيلية التي شاركت في المعرض. انحنيتُ بسرعة لأمرّر المظروف الورقي بما يحتويه من تحت باب مقر الصحيفة، بعدما كتبت عليه بخط مرتعش «خاص بالأستاذ إبراهيم أصلان»، وهرولت نازلاً الدرجات، براحة من يفرّ من شرك أعدّ له.
في الشارع بدأت أعي غباء ما فعلت، وعاتبت نفسي؛ كيف أرمي أول مادة صحافية لي هكذا من تحت الباب. لماذا لم أدخل وأقابل الرجل وجهاً لوجه؟ أياً يكن رد فعله، كان أفضل بكثير من أن أرمي مادتي الصحافية الأولى على الأرض هكذا، يا لغبائي. ناهيك عن أن الفعل نفسه ينطوي على جُبن لم أكن أتخيله بداخلي. المقال الذي اشتغلت عليه ثلاثة أيام كاملة، محاولاً قراءة عدد من الأعمال التشكيلية التي ضمها المعرض، ها هو يضيع بسبب جُبني من مقابلة إبراهيم أصلان، وهو لن يرشح للنشر مادةً ألقاها كاتبُها على الأرض! بعد أيام عدة وجدتُ من يخبرني أن مقالتي المنشورة اليوم في الصحيفة أدهشته. وجدتُ نفسي أهرول إلى مكتبة مدبولي في ميدان طلعت حرب لأفتح الصحيفة وأقرأ اسمي على المقال المنشور في الصفحة الثقافية!
بهذه الأفعال الصغيرة، البسيطة، علّمنا إبراهيم أصلان، وغيره من الكبار الحقيقيين، كيف يكون الكاتب «كبيراً»، على العكس مما نشهده اليوم من استعراضات سخيفة لبعض «كبار كتابنا»، وعوائهم الأجوف في مواقف لا تحتمل الاستعراض أو العواء. أتذكر هذا الموقف البسيط لأصلان اليوم، وأنا أستعيد ما دار بيني وبين أحد هؤلاء الكُتاب «الكبار»، وحادثتي معه تُحكى في جملتين: كتبت مقالاً عن رواية له ترجمت من اللغة الألمانية (التي يكتب بها كاتبنا الكبير) إلى الهولندية، فلم تعجبه، وقرر الانتقام مني برفع قضية ضدي وضد الصحيفة التي نشرت المقال… وربحها، وكالعادة؛ السّم في التفاصيل.
في العام 2009 صدرت ترجمة هولندية لإحدى روايات الكاتب الشهير الذي يكتب بالألمانية، وحين اطلعت عليها استفزتني لأكتب عنها مقالاً نشرتُه في إحدى الصحف الإلكترونية العربية، واستخدمتُ إحدى صور الكاتب التي وجدتُها منتشرة على شبكة الإنترنت وقتذاك. وما أن نُشر المقال حتى أبلغني المحرر المسؤول أن ثمة قضية رفعت ضدي وضد الصحيفة في مدينة برلين الألمانية، اعتراضاً على ما جاء من نقد للرواية في مقالتي. دهشتُ وراجعتُ ما كتبتُه كلمة كلمة، فلم أجد فيه ما يستدعي رفع قضية. صحيح أنني أعربتُ عن عدم إعجابي بحيل الكاتب المكشوفة لتحويل العالم العربي إلى بازار سياحي، وصحيح أنني اعترضت على تناوله السطحي لمدينة عظيمة كدمشق، إلا أنني لم أجد في ما كتبته ما يستدعي اللجوء إلى القضاء.
بعد أسابيع علمتُ أن الكاتب «العالمي» ربح القضية، وعوقبتُ أنا بحرماني من النشر في الصحيفة. أخبرني المحرر المسؤول حينها أن الكاتب استخدم نشري لصورته المصاحبة للمقال بحجة أن لها حقوقَ ملكية فكرية، كذريعة لحذف المقال من الصحيفة. صحيح أن الحكم القضائي أجبر الصحيفة الإلكترونية على حذف صورة الكاتب المصاحبة للمقال، لكنه لم يستطع أن يجبرها على حذف المقال، الذي لا يزال منشوراً، عزيزي «الكاتب العالمي الكبير»!
_______
*الحياة