حاوره: علي عبيدات*
خاص ( ثقافات )
غسان حمدان مترجم وروائي عراقي ولد في بغداد عام 1973 لعائلة عراقية كان ربها من أبرز المثقفين العراقيين والمترجمين عن اللغة الفارسية، وتلقى تعليمه في العاصمة الإيرانية طهران ليخالط أدبها وشعبها ولغتها، وانصرف منذ نعومة أظفاره إلى دراسة الأدب الفارسي والكتابة بين القصيدة والقصة والترجمة من وإلى الفارسية، ومن خلال بحثه في الشؤون الإيرانية “أدباً وتاريخاً وسياسة” عمل غسان حمدان في الإعلام كمعد للبرامج الثقافية والسياسية مع فضائيات عربية وعالمية، ودرس في سوريا اللغة الفارسية ليدخل بهذا العمل الأكاديمي ويترك وراءه في سوريا الكثير من طلابه.
وبحكم دارسته واهتماماته بعلم الاجتماع والأديان والفلسفة، فكتب البحوث والدراسات والمقالات التي نالت استحسان الأكاديميين، كان أبرزها عن السهروردي وحكمة الإشراق وتاريخ علم الاجتماع في إيران والغوص في الديانة الزرادشتية والتصوف الذي ترجم قطوفه عن اللغة الفارسية، وكذلك المقالات التي تناول فيها أعلام الشعر الفارسي الحديث ممن ترجم أعمالهم ودواوينهم من خلال عشرات الإصدرات التي قدم فيها الشعر والرواية الفارسية للقارئ العربي، وينشغل اليوم بترجمة الروايات من وإلى الفارسية، وكذلك ترجمة الكتب الفلسفية ومنها أعمال الفيلسوف ملا صدرا، ومقالات شمس الدين التبريزي.
التقى “ثقافات” المترجم والروائي غسان حمدان، للحديث عن الأدب الفارسي في عيون العرب وعلاقة الطرفين بين أدب متفق عليه وسياسات وعلاقات دولية هي عقر الخلاف والاختلاف، وتالياً نص الحوار:
(1) هل ترى الصراعات السياسية كفيلة بأن تُغْنِي العرب عن قراءة الأدب الفارسي، فنادراً ما نرى كاتباً عربياً يعرف أدباء إيرانيين، باستثناء أسماء محددة أمثال صادق هدايت وفروغ فرخزاد، رغم قائمة الأسماء الطويلة، فهل الترجمة مربوطة بالمواقف السياسية أيضاً؟
بصراحة، في ظل التطورات الإقليمية في المنطقة بت أخشى أن يحصل هذا الأمر.. ولكن مع هذا فأنا متفائل أيضاً. ويعود سبب تفاؤلي إلى وجود الكثير من المثقفين والواعين البعيدين عن الغوغاء الذين لا ينجرون إلى الصراعات الطائفية، كما أنه علينا ألا ننسى أن هناك مشتركات قومية ودينية ولغوية وسياسية بين إيران والدول العربية في طول التاريخ لا يمكن تجاهلها. صحيح أن هناك عداءً سياسياً وعدم تفاهم بين الطرفين، ولكن مع هذا فإن الفضول لمعرفة ثقافة وأدب الآخر قوي جداً. وطالما لا ترتبط ثقافة مع ثقافة أخرى وتبقى منغلقة فإنها لن تتطور بل تنكمش، وسيتجه أبناؤها إلى أي جديد ولو كان مضراً. باعتقادي أن أفضل الحلول هو التعاون المثمر من أجل معرفة ثقافتي الضفتين، فالسياسة تتغير حسب المصالح، والثقافة لا تتلوث إلا في ظروف خاصة!
لقد توقفت حركة الترجمة من اللغة الفارسية في ثمانينيات القرن الماضي بعد وفاة مترجميها المصريين، ثم نشطت مرة أخرى في العقد الأول من هذا القرن حيث ترجمت فيه روايات حديثة لروائيين إيرانيين جدد من قبل والدي المترجم سليم عبدالأمير حمدان إلا أنه توفي أيضاً.. وكل هذا حدث في عصر ما قبل انتشار المواقع الافتراضية والفيسبوك.
ولكن هذه الترجمات تعد مجرد قطرة من بحر الأدب الفارسي، فالتاريخ الإيراني والمعاصر منه يزخر بالكثير من الدواوين الشعرية، والمسرحيات، والروايات، والحكايات والأساطير الشعبية والتراثية، خاصة أننا لا نرى مترجمين محترفين يترجمون الروايات، بل لا نرى مترجمين غير محترفين أيضاً، فجل ما يترجم عن الفارسية مجرد أخبار سياسية…
وأما عني أنا، صحيح أنني قمت بترجمة عشرات الكتب، ولكنني كما أشرت في المقدمة، أمام بحر من الكتب المتراكمة منذ أجيال.
(2) يرى المطلع على الترجمات -القليلة- عن الشعر الفارسي شعريةً غريبة يتوه القارئ بين تفاصيلها، فما السمات الرئيسية للشعر الفارسي الحديث، وفي تصورك من هم أعلام هذا الشعر باعتبارك ترجمت لأعلام الشعر الفارسي؟
يقسم الشعر الفارسي الحديث إلى ثلاثة أنماط: الشعر النيمائي (أي المنسوب إلى نيما يوشيج رائد الشعر الحديث) وهو شعر موزون إلى حد ما، والشعر الأبيض أو قصيدة النثر، والموج الجديد الذي تأثر بالشعر الغربي وخاصة في ستينيات القرن المنصرم.
ونظراً لوجود هذه التيارات الشعرية التي تفرعت بدورها إلى تيارات أخرى، لا يمكن تحديد السمات الشعرية في إطار محدد، بل يجب دراسة كل عقد بأحداثه السياسية والاجتماعية وتأثيره على الشعراء. لدينا رواد مثل نيما يوشيج، وأحمد شاملو، ومهدي إخوان ثالث استخدموا الرمزية للتعبير عن احتجاجهم السياسي وتبعهم آخرون.. وهناك فروغ فرخزاد التي اهتمت بقضية المرأة واجتازت المحظورات، كما اهتم سهراب سپهري بالرموز الصوفية والبساطة الشعرية الممتزجة بمشاهد الطبيعة وبنوع خفيف من السوريالية تجعل القارئ يعيد قراءة قصائده ليكتشف عمقها رغم بساطتها، ويستمتع معه. ولدينا محمد رضا شفيعي كدكني الذي اهتم بالتراث ورموزه. وأما حميد مصدق فقد اهتم بالنوستالجيا أو الذكريات وأعاد تصويرها بلغة شعرية بديعة، ومزجها بالرومانسيات. وهناك قائمة أخرى من الشعراء لا يمكن عدهم كلهم، من ضمنهم منوتشر آتشي، فريدون مشيري، سياوش كسروي، بيژن جلالي، مهرداد اوستا، شمس لنگروي، أحمد رضا أحمدي، محمد علي سپانلو و…
(3) الرواية الفارسية الحديثة تلقى رواجاً وانتشاراً كبيراً وفق ما تنشره الصحافة الفارسية وما يترجم إلى اللغات الغربية، والقليل الذي وصلنا إلى العربية وربما كان أكثره مترجماً عن اللغة الإنجليزية أو الفرنسية. ما ملامح الرواية الفارسية؟
لقد دخلت الرواية إلى إيران في فترة تحديث البلاد قبل أكثر من مئة سنة. كان المعارضون والأدباء يسافرون إلى تركيا العثمانية أو فرنسا وسويسرا للاطلاع على الأساليب الغريبة في السياسة من أجل تصديرها إلى إيران لإنجاح ثورتهم الدستورية. وهكذا دخلت الرواية مع الصحافة وسرعان ما تطورت بموازاة حركة الترجمة في البلاد، لتجد مكانتها على المستوى العالمي، وبالطبع هي متأثرة بالأوضاع الاجتماعية والثقافية والسياسية في إيران وتنتقدها بشكل غير مباشر.
يكمن الفرق بين الرواية الإيرانية والعربية في أسلوب السرد عند الإيرانيين. الرواية إيرانية معقدة قياساً إلى الرواية العربية التي تميل إلى السرد المباشر، كما أن الزمان في الرواية الفارسية مشتت، كالزجاج الناثر؛ أي على القارئ أن يحل الأحجية ويفكر فيها.. والرواية الفارسية الحديثة، كما أسلفنا، تنتقد الآلية السياسية للحكومة… وفي وقت تبتعد الرواية الغربية عن الواقعية الخارجية لتلجأ إلى الذهنية المتطرفة من دون تقبل أي مسؤولية أو أي دور للإصلاح، يتعهد الروائي الإيراني بإصلاح الوضع ولو عن طريق السخرية كونه يحس بالمسؤولية الاجتماعية والأيديولوجية. ومن أهم ما يستهدفه الكُتَّاب في إيران، مبحث التقاليد والحداثة في قالب النقاش والصراع بين الأبناء والآباء “پدران وپسران” وكذلك القيم الأخلاقية السائدة. بعبارة أخرى فإن الروائيين الجدد خرجوا من عباءة صادق هدايت ويتبعون مساره، ولكن في طرح جديد.
(4) تتصدر السينما الإيرانية مهرجانات السينما العالمية ودائماً ما تحظى بجوائز كبيرة، حتى أن ثمة مقارنات بين السينما الإيرانية والأخرى العربية، فيقال إن السينما العربية الكلاسيكية كانت أكثر تطوراً من السينما الإيرانية القديمة لكنهم تفوقوا على السينما العربية حديثاً، لماذا كل هذا الاهتمام بالسينما الإيرانية؟
تمتاز السينما الإيرانية بالمواضيع والهموم المحلية والاجتماعية… صحيح أن ما من صانع فيلم لا يفكر بالمردود المادي لإنجازه السينمائي، ولكن الأفلام الجادة والرصينة أكثر من التجارية. ولا ننسى أن أغلب الأفلام العربية وخاصة المصرية، فضلاً عن كونها تجارية أو كوميدية، فهي النسخة العربية لأفلام الدول الأخرى كالولايات المتحدة وفرنسا وحتى الهند.. بعبارة أخرى فإن الأفلام الإيرانية كتبت بأفكار إيرانية وليست مترجمة؛ وهي تبين البيئة الإيرانية تماماً. وعلى سبيل المثال فإن أفلام كيا روستمي تجري أحداثها في بيئة قروية، إلا أنها لا تندرج في إطار القرية وإنما لها نظرة معرفية على العالم وكأنها نافذة تحاول أن تفتح على الجميع. ولأفلامه رموزه الخاصة كالطريق والحركة، ولكن في الوقت نفسها تخلو من النظرة المتحمسة والصاخبة. على كل حال، فإن الأمر يختلف من مخرج إلى مخرج آخر، إذ لكل من المخرجين ذهنيته الخاصة وأسلوبه المتميز.
وهنا أود أن أضيف، صحيح أن السينما الإيرانية بدأت منذ أكثر من مئة سنة، ولكن بعد تغيير النظام توقفت لتبدأ من جديد برؤية جديدة، إذ صب اهتمام الحكومة على الأفلام الحربية ودعمها، في مقابل الأفلام الفنية الجادة التي كان يخرجها شلة من مخرجي النظام السابق، مثل داریوش مهرجویي وناصر تقوایي بود ومسعود کیمیایي، وبهرام بیضایي حيث قدموا رؤاهم الجديدة بابتكار يناسب البيئة والثقافة تجعل المشاهد يعيش في أجوائها. وفي الحقيقة إن السينما الإيرانية خليط من السينما الواقعية الإيطالية والسينما الفرنسية الحديثة بمدارسها المتنوعة، ويمكننا إضافة أجواء قصائد الشعراء الحداثيين أيضاً، إذ قام بعض المخرجين وكتاب السيناريوهات بتقديم أفلام عن نصوص شعرية.
(5) ما رؤيتك لحركة الترجمة بين الفارسية والعربية بعد سنوات طويلة أمضيتها في ترجمة الشعر والرواية والفلسفة والتصوف الفارسي عن الفارسية والعديد من الترجمات من العربية إلى الفارسية؟ هل ثمّة أمل بتقارب الثقافات بعيداً عن السياسة، فثمة مقولة قديمة تقول: “الأدب العربي والأدب الفارسي جناحان لطائر الثقافة الإسلامية”؟
قبل أكثر من ثمانين عاماً بدأت دراسة اللغة الفارسية في جامعات مصر باهتمام الراحلين طه حسين والدكتور عزام، وترجمت بعض الأعمال الكلاسيكية وكتبت أطروحات ثمينة عن الأدب والتاريخ الإيرانيين. وقام الراحل دسوقي شتا بعدهما بتقديم نماذج أحدث عن الأدب الفارسي، ثم علاء الدين منصور، وكذلك ماجدة العناني، وغيرهم.
ولكن بعد ذلك توقفت حركة الترجمة من قبل أساتذة جامعات مصر، واهتموا بالأطروحات الجامعية فقط. في المقابل لم يكن هناك أي اهتمام بالأدب العربي سابقاً، وكانت الترجمات قليلة ومركزة على أسماء أدباء معدودين كجبران خليل جبران، جرجي زيدان، غادة السمان، ولكن في السنوات الأخيرة نشطت الترجمة في إيران بعد ظهور جيل جديد هناك إذ قدموا الكثير من الأدب العربي بشقيه الرواية والشعر، وقاموا بتعريف الطيب صالح، أدونيس، غادة السمان، نجيب محفوظ، بهاء طاهر، نزار قباني، محمود درويش، وأسماء أخرى، ولديهم مشاريع مستقبلية جميلة أخبروني عنها، وأتمنى لهم التوفيق.
وأما فيما يخص الشق الثاني من السؤال، بصراحة أنا متفائل فقط بالإقبال على الترجمات، فحركة الترجمة أضعف قياساً إلى الإعلام وخاصة تلك المسمومة التي تبث الكراهية، فعدد القراء أقل من متابعي الأنباء التي تقصفهم بمعلومات تجعلهم يمتلئون حقداً.
لم يكن الإسلام مشتتاً فيما مضى كما هو الآن، ولم يعد أحد يهتم بوحدة الثقافة الإسلامية، بل بتقسيمها بين جماعتنا وجماعتهم… ولكن مع هذا أتمنى أن أكون مخطئاً في كلامي.
*شاعر ومترجم أردني.