محجوب عبد الدايم ومحفوظ عجب بطلا الـ30 سنة الماضية وما زالا


*لبنى ورشل


خاص ( ثقافات ) 
مؤلفا محجوب عبد الدايم بطل فيلم ( القاهرة 30 ) ومحفوظ عجب بطل مسلسل (دموع صاحبة الجلالة ) أتقنا رسم هاتين الشخصيتين ؛ ليعبرا عن تدهور وانحطاط أخلاقي، بدأ يتسلل إلى الشخصية المصرية ، وينشر ثقافته المريضة على المجتمع ، حتى النخب في كل المجالات ، ومنها الإعلام، حيث وصل محفوظ عجب إلى رئاسة مجلس إدارة مؤسسة صحفية قومية وكذا رئاسة تحرير صحيفة فيها، وأصبح شريكا في توجيه الرأي العام المصري . 
لكن ما القيم السلبية التي كانت تتمتع بها هاتان الشخصيتان؟ إنها قيمة التسلُّق وفقه المصلحة والوصول إلى الهدف مهما الوسيلة منحطة، ناهيك عن ارتداء كل الأقنعة اللازمة مثل النفاق ، وتشويه سمعة الآخرين ، وارتداء قناع الفضيلة عند اللزوم .
من أين جاء هذان الشخصان ؟ ومن أية طبقة ؟ وما مخزونهما الثقافي الذي جعلهما يمتهنان تلك الأساليب ؟.
هل نعود إلى البداية ؟
والتي تبدأ من ثورة 1952 يوليو وجمال عبد الناصرالذي فعل أسوأ ما يفعله حاكم ، حيث قفز بالطبقة الدنيا قفزة هائلة ، من دون تدرُّج وفي الوقت نفسه حارب الطبقة الوسطي القوية وقضي عليها ، وأكمل الرئيس مبارك ما فعله ناصر . 
في مصر قبل الثورة كانت الطبقة الدنيا متوفرة في الفلاحين الذين يعملون بأيديهم دون امتلاك الأرض أو امتلاك أفدنة قليلة لا تتعدَّى أصابع اليد, هذا في الريف ، أما في المدن فكان العمال الحرفيون ، هم المُكمِّل الثانى لهذه الطبقة .
فقد كان أفراد هذه الطبقة مظلومين اجتماعيا، إذ هم بعيدون عن الملكية الخاصة ، و يعملون بالأجر عند الطبقتين الأعلى، 
وكان الأجريكاد يكفي المعيشة ..
ولقد تعرضت هذه الطبقة على مر العصور السابقة إلى ظلم اجتماعي واقتصادي وسياسي ، ولكنها كانت محصَّنة بقيمها الخاصة التى تمنعها من الثورة على أوضاعها ، ومن ضمن هذه القيم ، كان الدين الذى أخضعته ثقافتها كعلاج نفسى لكل ما يواجها من إحباط من الطبقات الأخرى ، حيث وقر في النفوس أن تفاوت الناس سنَّة إلهية في اقتسام الرزق، وأن تفاضل الطبقات بحسب ما تملك من متاع الحياة وخيراتها أمر طبيعى،
قصد إليه الدين بل صرح به القرآن الكريم وتساق إلى ذلك آيات القرآن الكريم (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ )سورة الأنعام – الآية (165) ، 
(وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)سورة النحل – الآية 71،
(نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32﴾. [ سورة الزخرف ]). 
وعاشت الطبقة الدنيا منسجمةً مع ظروفها الاقتصادية والاجتماعية ، راضيةً بقضاء الله.. وكانت ثقافتها خاصة بها لا تعلو لأكثر من طبقتها ، فكان فنها لا يتعدى المواويل الحزينة أو قصص البطولات الشعبية مثل أدهم الشرقاوي أو أبي زيد الهلالي ، حتى أفراحها كان الغناء فيها من داخل البيئة يتحدث عن الحقل والمواشى، بينما الفن في العموم كانت نبرته حزينة ، نظرا لما يصيبها من فقر ومرض ، لكن المميز في هذه الطبقة في ذلك الوقت ، ولشدة ترسُّخ أوضاعها الاجتماعية أنها كانت طبقة مستسلمة للطبقات الأخرى لكن لم يكن يمنع هذا الاستسلام الحقد في النفوس وتمني الخراب للطبقات الأعلى..
أود بأن أصرح هنا أن هذه الطبقة لم تكن مُعدَّة بطريقة صحيحة لإلحاق أبنائها بالمدارس ، ثم الجامعات بعد ذلك..
والإعداد الذى أقصده هنا هو الإعداد القيمي والنفسي والثقافي.
إن عمل أفراد هذه الطبقة بعد ذلك كأطباء ومهندسين ومدرسين وفنَّانين ومشاركة الطبقة المتوسطة في وسائل الإنتاج كان يحتاج إلى تعليم من نوع آخر ينصب أساسا على تغيير الكثير من السلوكيات التى ترتبط بقيم المجتمع التى 
رسختها الطبقة المتوسطة وأصبحت عُرفًا سائدًا 
والمعروف اجتماعيا أن الطبقة الدنيا ، ومن شدة الطغيان الذى وقع عليها تتمتع بقيم حاقدة على من هى أعلى منها في السلم الاجتماعى
ومن ناحية أخرى فإن الإصلاح الإقتصادى الذي قامت به الثورة لصالح هذه الطبقة ، لم يؤت ثماره بل اتجه إلى الاستهلاك لتعويض الحرمان الشديد الذى حرمت منه هذه الطبقة على مر العصور، وكنت أتصور أن يكون التعليم الممنهج هو الطريقة الوحيدة للنهوض بهذه الطبقة كإقامة معاهد تدريب مهنية وإعداد كوادر خاصة من أفراد هذه الطبقة لتخريج عمال مهرة في كل مجالات الصناعة والزراعة كمهن مساعدة حتى يمكن الارتفاع بهؤلاء إلى مستوى اقتصادي أعلى يقتربون به رويدا رويدا من الطبقات الأعلى فيحدث الاحتكاك الثقافي بينهم.
ولكن هذا لم يحدث ، ولكن الذى حدث ، هو صعود أفراد هذه الطبقة المليئة بالأمراض الاجتماعية إلى الوظائف العليا التى تتمتع بقيم خاصة في ذلك الوقت كإتقان العمل والتفاني فيه وعدم قبول الرشوة وتحري الدقة والالتزام المهني المطلوب.
منذ قيام الثورة نراها قد اعتمدت في فكرها الاستراتيجي على فئة جديدة تسير في كنفها وتصفِّق لها وتحشدها وقت الحاجة لتمرير مشروعها الثوري، خصوصا ما يتعلق منها بالقومية العربية وتم تخصيص 50% من العمال والفلاحين في المجالس النيابية والمحلي. 
وبدخول هذه النسبة إلى المجالس النيابية نجدها وقد استعانت بأفراد من طبقتها ولكسب رضاها اهتمت هذه النخب المختارة حديثا بتقليد أبناء طبقتهم في المناصب المميزة على مختلف توجهاتها فرأينا أبناء العمال والفلاحين يحتلون المناصب السياسية في الحكم المحلي والمحافظات والقطاع العام ، ولم يكتفوا بذلك بل تم تصعيدهم إلى رئاسة تحرير الصحف ، وإعداد البرامج في التليفزيون ، وبدأ أبناء هذه الطبقة في الانتشار السرطاني في كل أوجه الحياة.
الشىء نفسه حدث في طبقة رجال الأعمال، فبينما كان هناك قبل الثورة أبو رجيلة ، وطلعت حرب ، والبدراوى ، وعبود وغيرهم الذين أقاموا المصانع والبنوك، ووضعوا البنية الأساسية لتقدم حضاري، وجدنا رجال الأعمال الآن ينهبون ثروات مصر ، ويذهبون بها فارين إلى أوروبا ، وبدأ ظهور ما يسمى بالاقتصاد الإسلامي وتشغيل الأموال وبدأنا نرى قضايا الفساد تنتشر بين أوساط رجال الأعمال من أبناء هذه الطبقة.
ومع استمرار سيطرة الطبقة العاملة ماديا واقتصاديا على كل جوانب المجتمع ، ظهر الطبيب الفاسد الذى لا يتقن عمله ويترك الآلات الجراحية في جسد المريض ، وكذلك الطبيب الذي يسرق أعضاء المرضى.. 
والمهندس المرتشي ، ومدير البنك المرتشي ، والمدرس الذى يبيع كرامته للتمليذ من أجل الدروس الخصوصي.
والأشد على المجتمع المصرى كان في النخبة.، النخبة السياسية والاقتصادية والإعلامية والدينية، حيث أصبحت كل هذه النخب تتمتع بقيم الطبقة العاملة حتى لو كان بعضها من الطبقة الوسطى أو العليا.. لماذا..؟ 
لأن المعلوم في علوم الاجتماع وعلم تفسير السلوك أنه إذا سيطرت طبقة اجتماعية على المجتمع فإن قيمها وأخلاقها وثقافتها هي التى تسود على بقية الطبقات، وهذا هو ما يحدث في مصر الآن
فماذا حدث الآن بسبب هذ؟. 
سيطرت ثقافة القطيع على المجتمع، في الفن والاقتصاد والتعليم والإعلام وفي كل مجالات الحياة، حيث إن معظم الإعلاميين من هذه الطبقة.
جرب أن تدخل حفلة منتصف الليل في أي دار للسينما ستجد أطفالا عن يمينك وشمالك وعلى حجرك.
فمن العادي أن يسهر الأطفال إلى ما بعد منتصف الليل ، وأن يشاهد الاطفال تعاطي الحشيش والضرب بالقفا والسب بالأب والأم ، والسخرية من شكل الآخرين والإيحاءات الجنسية الفجة. ولا أجد أي أب أو أم يشعر بأدنى خجل من أنه أحضر ابنه الى هذا الفيلم. إذ أصبحت كل الأفلام الآن مواد مناسبة للأطفال ولا أفهم كيف؟. 
أنا هنا لا أناقش أن هذه الافلام سيئة، ويجب عدم عرضها من أساسه. مثل هذه الأفلام تكون مسلية ومضحكة لشخص ناضج يستطيع التفرقة بين الخطأ والصواب ولن يتشكل لديه مثل أعلى يقلده في الشخصيات التي يراها. كل هذا غير متوفر لدى طفل صغير.
موضوع الأطفال يؤرقني لأنه مقياس شديد الخطورة على مفهوم قيم المجتمع ، ولكنه ليس المقياس الوحيد بالتأكيد .
وحيث إن الأغلبية مسلمة ، فسوف يكون هذا هو المقياس مع عدم وجود أي تحيز مسبق أو نوايا خفية للتحقير من شأن الإسلام.
تقريبا أكثر من ثلثي السيدات والبنات يرتدين الحجاب، وشعائر صلاة الجمعة تصيب معظم الشوارع بالشلل، ودروس الدين بعد صلاة التراويح في أي جامع كبير يحضرها الرجال والسيدات من جميع أنحاء المدن ؛ لتشعر في النهاية أن هذا المجتمع قد وصل إلى قمة روحانياته.
وهذه المظاهر ليست مظاهر سلبية أبدا.
بل هي من المفروض أن تدل على توجُّه الأغلبية العظمى من مجتمعنا إلى الدين وهو مؤشر إيجابي.
ناقش العديد من الأشخاص مسألة أن الحجاب لا يعني بالضرورة التزام من ترتديه وأن زبيبة الصلاة لا تعني تقوى الشخص الذي يحملها على جبينه.
ولكن أنا هنا لن أتحدث عن أشخاص، أنا أتحدث عن الناتج الأخلاقي للمجتمع ككل.
فأي شخص ينكر أن الأخلاقيات المجملة لمجتمعنا تنحدر يوما بعد يوم سيكون إما كاذبا أو جاهلا. 
حيث إن كل مظاهر الحياة من حولنا ، بدءا من قبول الرشاوى صارت أمرا عاديا ومتوقعا وجزءا من أية معاملة مادية ، كما أن البلطجة والعنف أصبحا سائدين في المجتمع من أول قيادة السيارات وحتى تناول الطعام في الأفراح.
حيث أصبح الكذب والتزوير أمرا مألوفا. النميمة والسخرية وتحطيم الآخرين معنويا أصبحت كلها شطارة.
الدروس الخصوصية والشهادات بدون علم أصبحت منتهى آمال الأهل لأولادهم.
إلى آخر قائمة طويلة من انعدام الأخلاقيات. 
كيف يهبط هذا المنحنى في حين أن منحنى مظاهر التدين يرتفع؟
هذا شيئ محير
بالتأكيد إذا كانت هذه هي النتيجة المجملة لأخلاقيات المجتمع فإن هذا التدين ليس حقيقيا بالمرة، وأننا كلنا (ليس فقط المسلمين) نتظاهر بالتدين لأسباب قد تختلف من شخص إلى آخر.
إذا لم يكن ترجمة كل هذا التدين الظاهر إلى ارتفاع في قيم وأخلاقيات المجتمع فليس له أية قيمة مطلقا ولنضعه جانبا كأنه لم يكن.
وبعد فهل يمكن بناء طبقة وسطى جديدة ، حتى تحاول فرض ثقافتها على المجتمع من جديد ، أم أن الحكومات أصبحت عاجزة عن السيطرة على هذا الانحطاط الأخلاقي الذي نعيشه. 
_________
*كاتبة وأكاديمية مصرية تعيش في نيويورك

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *