*مازن معروف
قبل ثلاث سنوات، صدر لزهرة مروة كتابان شعريان في الفترة نفسها تقريباً. الأول بعنوان «جنة جاهزة» (دار الغاوون)، والثاني «الإقــــامة في التمهيد» (الدار العربية للعلــــوم والنشر). اليوم تعود مروة بمجمـــوعة جديدة عنوانها «الحياة علــى دفعات» (دار المؤلف). عناوين ثلاثة، تشعرنا بأن ثمة رابطاً خفي بينها. كما لو أنها تؤكد بعضها. تحيل على المسافة، على العلاقة المـــوقتة من المكان، على الرغبة في تفحص الأشياء ورفعها فوق مستوى الانطـــباعات الشعرية المعتادة. عنــاوين مركّبة، تعمدت الشاعرة الخـــروج بها إلى القارئ، كما لو أنها مشـــــروطة بشيء من التقهقر، الترقب، التراجع أو المهادنة الموقتة.
في قصائد «الحياة على دفعات»، لا تبقي مروة على نقطة ارتكاز واحدة. ثمة في كل قصيدة نقطة بدء إنطلاقاً من حميمية ما. إنها أيضاً مجازفة، لعب على حواف الكليشيه. كما لو أنها في الوقت نفسه تحذرنا ونحن نباشر بقراءة كل قصيدة. قد تكون البداية خفيفة أحياناً، أشبه بشرارة سلسة يسهل ابتلاعها، سياقاً مألوفاً من الكلام لا يشعر معه المرء بأنه تحت وطأة ظل بلاغي مستعرض أو أن هناك خبطة شعرية استثنائية بانتظاره «أتنقل فراشةً من نظرة إلى أخرى، ألتقط صوراً للمشاعر. في عينيها نهار غير ناضج، فرحة لم يكتمل قمرها. أجبرها أحدهم على الاستيقاظ باكراً، أو نسي إقفال شبابيك ليلة يدخل منها الوهم». غير أن الحساسية التي تبقيها مروة متماسكة على امتداد القصيدة، كأنفاس مشدودة، تحرف النص نحو أبعاد خاصة. يصبح له اتجاه مربك إذا صح القول. ثمة شيء مختلف فعلاً في هذه القصائد. شيء يدلنا على صدقية لم تعد موجودة في الكتابة الشعرية، بعيداً من هواجس التكسير والتجريب والمانيفستو والسكوب. فعدا عن شعورنا بأن الحكايا الشخصية هي فهرس مروة الشعري دوماً، فإن القصائد يتجلى فيها ذلك السعي لجعل أدوات الحياة المتنافرة تستفز بعضها بعضاً. كما لو أنها في بحث دؤوب عما هو ممكن شعرياً في وجودها المتناقض، وما يمكن أن يرتَّب بحلة أخاذة وغير مألوفة. كأن النص الذي نقرأه هو تسلسل صوتي، إيذان خافت بأزمة عميقة، بلا ادعاءات، ولا تفخيم في العبارة أو الصورة. ما يفتتنا هو المحصلة الجمالية. «أسيرة صيغة جامدة. أرشف ألمي مع القهوة. تركد روحي في الشطر الثاني من الوقت، تجمع حممها لتنطلق، تلملم أذيالها المشرعة على الفضاء. وردة تجمع وريقاتها، تتشعب سراً، تنفض عنها الكون».
بعض قصائد الكتاب تبدو كما لو أنها تكتل من الملاحظات اللماحة لتأليف اعتراف كبير ذات أثر. من هنا أثر ذلك التوتر الذي قوامه جمل سردية تتجاور مع صعقات منضبطة ومكثفة نسبياً من الاستعارات الشعرية. مفتاح ذلك أن مروة لا تلقي بالاً بالكليشيهات اللغوية التي من الممكن أن تبدو متداولة أو الصور المألوفة. وربما يسد هذا ثغرة في تساؤلنا، حول ما الذي يحرك القصيدة، أو ما الذي يجعل جلدها شفافاً إلى هذا الحد. وذلك لأننا نقرأ أطواراً شعرية ضد الترفع. «كم يدي اليمنى غريبة عن يدي اليسرى، وكم تكفي لمسة منك كي أعرفني. (…). لا أعرف أن أجاريني كما تجاريني». كأن مروة تريد القول إن الشعر بامكانه أن يكون أكثر بساطة أيضاً، أقل تكلفاً وتعقيداً، أن يكون متروكاً على سجيته، نشاطاً فطريَّ ضد الاجتهادات ألمابعد الـ»بوست – حديثة». ويمكن أن يتسلح بنبله كغاية عليا. «يسعفني الطفل الذي فيّ، أجهد أن أحافظ عليه… ليس لدي غير الطفولة، أواجه بها. أربحُ لأني بسيطة».
في «حياة على دفعات»، إنه الشعر حين يبحث عن حجتنا الوجودية الصغيرة. عن تشظياتنا المهملة. أثر الحب. معنى الفضاء المهجور وما يبقى من المسافة. النقلات التي لا تسترعي انتباهنا والندوب التي تنتفخ في ذواتنا مع مرور الأيام. إننا في القصيدة متناثرون حول المكان الذي كنا فيه. حول وجودنا السابق. كما لو أننا انفلشنا على حين غرة. «أعبر إلى مدينة أخرى، غيومها زهور، ينسج الناس الزمن بهدوء، تتغير لهجة الهواء».
المرونة الظاهرية في تحويل العالم إلى نظام من العلاقات الهشة، المتجاورة وغير المتجانسة بالضرورة والمحكومة الآن بدوزنة شعرية، تقنية تتمسك بها مروة. غير أن ذات الشاعرة – الأنا بحضورها الفج والمباشر – تبقى العينة الرئيسة التي سيُجري عليها الشعر اختباره. كما لو أنها ذات مطالبة بأن تكون فلسفية تزكي التلاشي أو العدمية «يغادرني الوقت، عبرتُ سريعة نحو طيفي الذي ينتظرني في المحطة الأخيرة». طريقة معهودة تفلتر بها مروة حياتها الشخصية. الحب على وجه الخصوص، يمكن أن يحضر بكل نُسخِهِ، ملتبساً، متضعضعاً، مثل تهديد جديد في كل مرة، ما يستدعي إعادة تشكيله، وجسه بمجاز مختلف. «يخف وزن عاداتي، أغسل وجهي بأصالة هجرتني، لذة اكتشاف السنة الآتية، كي أعود قليلاً لبداية الحكاية: امرأة تتصالح مع ماء وجهها، أتى سفاح شكّ سيفه في منتصف العودة، في قلب الطريق العاري».
______
*الحياة