القاهرة- من دستويفسكي الحقيقي؟، ما طبيعته المتفردة التي انتقلت مباشرة إلى إبداعه بعدما انصهرت في خلق خيال عظيم؟، إن كل من تناول عالم دستويفسكي الفني وحياته الشخصية لا يمكنه إلا أن يطرح على نفسه مثل هذه الأسئلة مثلما طرحتها على نفسها، «آنّا جريجرويفنا» على أن ظهور مذكرات معاصري الكاتب، التي كثيراً ما شوهت بفظاظة شخصيته واعتبرتها شخصية قدرية، ثنائية ريفية، عابسة متجهمة معذبة، يعد أهم الأسباب التي دفعت «آنا جريجرويفنا» إلى إعادة الحقيقة والحدث عن دستويفسكي الحقيقي.
تقول آنا: «إن مذكراتي ضرورية ليرى الناس في النهاية هذا الشخص على نحو حقيقي، فالمذكرات التي كتبت عنه شوهت مراراً صورته تماماً».
وضعت آنا مذكراتها في الفترة من 1911 حتى 1916 وتطلبت منها جهداً فائقاً، وقد وفرت لهذه المذكرات ما تستلزمه من دقة متناهية، حيث تتسم بالعمق والبساطة الطبيعية، مستهدفة بالدرجة الأولى أن تقدم لقراء دستويفسكي كاتبهم بكل جوانبه المضيئة وأخطائه على نحو ما كانت عليه تماماً في حياته العائلية والشخصية.
المترجم أنور محمد إبراهيم، في مقدمة ترجمته للمذكرات الصادرة عن المركز القومي للترجمة، يشير إلى أن «آنا» ظلت لفترة طويلة محجمة عن كتابة مذكراتها ،كما ظلت أيضاً راغبة عن نشر خطابات دستويفسكي التي كتبها إليها، تقول في حديث صحفي: «لست أديبة، ناهيك عن إحساسي بالخوف أن يعد الناس هذا العمل نوعاً من الزهو والغرور، فضلاً عن ذلك فأنا أرى أنه من المستحيل أن أقوم بنشر خطابات فيودور ميخايلوفيتش لي قبل وفاتي، ليس لدي أي قدر من الغرور، إن الناس يولونني قدراً كبيراً من مشاعر الحب والتقدير بصفتي أرملة دستويفسكي الأمر الذي يجعل من الرغبة في تحقيق مجد شخصي أمراً غريباً عني تماماً».
يشير المترجم إلى أن أحدا من الباحثين ربما لم يلتفت إلى بعض الصفحات القليلة من المذكرات، حيث يدور الحديث عن علاقة الكاتب بمعاصريه من الكتاب والصحفيين والعلماء والشخصيات العامة، تلك العلاقة التي شابها التعقيد تارة والالتباس والتناقض تارة أخرى، إن الشهادات المقتضبة التي أوردتها آنا عن لقاءات دستويفسكي والناقد نكراسوف تمثل أهمية فائقة لمؤرخي الأدب، فضلاً عن أنها تمثل أهمية من وجهة نظر سيكولوجية العلاقات الإنسانية، وعلى حد قول كاتبة المذكرات فإن مبدع الفقراء كان سعيداً للغاية بتجديد علاقات الود والصداقة مع نكراسوف صاحب الموهبة الفذة، التي كان دستويفسكي يقدرها تقديراً رفيعاً، كان دستويفسكي يعوده أحياناً ليطمئن على صحته، وقد طلب ذات مرة ألا يوقظوا المريض، وأن يبلغوه تحياته القلبية فقط.
تمثل مذكرات زوجة دستويفسكي في مجملها شيئاً متميزاً وثميناً، فقد صححت المذكرات رؤيتنا للكاتب، وفتحت الباب أمامنا للمرة الأولى لندلف إلى داخل بيت دستويفسكي وأخذت بيد القارئ إليه، بعد أن قدمت لنا رجلاً آخر لم يعرفه أحداً سواها وعلى هذا النحو تصور على سبيل المثال دستويفسكي في لحظة من لحظات اعترافه، أو وهو يرتجل أمام زوجة المستقبل موضوع الرواية التي هو بصدد كتابتها فيصف لها الحبكة التي سينسج من خلالها الحالة النفسية لفتاة شابة، إنه يؤلف الرواية ويحكي في الوقت نفسه سيرته الذاتية من دون أن يزيل الحد الفاصل بين الفن والحياة ،وإنما يفسر بشكل واضح كيف يمكن عبور هذا الحد.
في هذه المذكرات تتكشف أمامنا بصورة تلقائية الصورة الأخلاقية الرفيعة لدستويفسكي ونراه وهو في أسوأ أيام هزائمه وفاقته وبؤسه في نهاية الستينات من العمر، وإن لم يفقد فيها أناقته أو شعوره بكرامته الشخصية، فنحن أمام إنسان احتضن القدر بحياة مفعمة بالتقلبات المأساوية، إنسان تأرجح أكثر من مرة على الهاوية، ومع ذلك راح يحتفي بالحياة على نحو أشد قوة.
________
*الخليج الثقافي