فادي عزام
في رحلتي لزيارة قبر فرناندو بيسوا كنت أفكر، ترى لماذا الشّعراء الذين أحبهم أو معظمهم يموتون في نوفمبر؟
الموت يحصد أعمار الشّعراء في نوفمبر/ تشرين الثاني ليس مصادفة إذ أنّ:
أرثر رامبو مات يوم 20 نوفمبر.
ورياض الصالح الحسين مات يوم 21 نوفمبر.
فرناندو بيسوّا مات في 30 نوفمبر.
أورهان ولي مات في 14 نوفمبر.
ولوتريامون مات في 24 نوفمبر.
عزرا باوند مات في 1 نوفمبر.
علي محمد طه مات في 17 نوفمبر.
وإيليا أبو ماضي مات في 24 نوفمبر.
و”استشهد المتنبي” يوم 19 نوفمبر.
والهادي آدم مؤلف “أغدا ألقاك” مات في 29 نوفمبر.
وأسلم سعيد عقل الروح في 28 نوفمبر.
وبالطبع توقفت عن البحث ألا يكفي هؤلاء، لنقل إن نوفمبر الشّعراء، شهر موتهم، وشهر قيامتهم!
أمّا لماذا خصصت المتنبي بأنّه استشهد، لأن بعض الحكايات تقول إنه ببساطة قتل لأنّه حاول أن يكون في لحظة موته مثلما كان في حياته. كان قد هجا فاتكا الأسدي، فخرج عليه غاضبا يريد قتله حتى لقيه، فأدار الرّسن يريد الهرب، فسمع غلامه يقول له:
أولست أنت القائل.
الخيل والليل والبيداء تعرفني! فأوقف هربه وعاد ليلاقي مصيره بشجاعة وهو يقول:
ويحك يا فتى. قتلتني. ستكون ميتة المتنبي شافعة له كل انتهازيته التي عرف بها في حياته.
أما الآن .. فأنا في حضرة بيسوّا؟
إنه أنطونيو فرناندو نوغيرا دي سيابرا بيسوّا ولد في يونيو عام 1888 وتوفي في 30 نوفمبر 1935 هو شاعر وكاتب وناقد أدبي ومترجم وفيلسوف برتغالي، ويوصف بأنّه واحد من أهم الشّخصيات الأدبية في القرن العشرين، وواحد من أعظم شعراء اللغة البرتغالية، أتيت لزيارة قبره، أو للّقاء بحاضنة جثمانه والهمس له أنّ شاعراً من مدينة مارع المكلومة اليوم في حلب المحروقة في بلدي سوريا الوحيدة كعظمة في فم كلب، اسمه رياض الصالح الحسين، قصير القامة وسيم الوجه، يودُّ أن يلقي التّحية عليك. ويقرئك السّلام من حيث منبع اللاطمأنينة من وسط القلق البرّاق، من جذور الجحيم الودود، من مكمن العطب الأول، من جوهر النّطفة التي ولدت منها خطيئة الحياة وصلاح الموت من بلاد شرق المتوسط المهموزة على وجه الصّحراء والمنسوخة بحبر الموت. وها هي رحلتي إليك في شوطها الأخير.
مكللا بالصّداع النّابض أجلس في لشبونة في ظهيرة صيف حار، أردد مقطعا لبيسوّا وهو في حالة ائتلاف نادرة مع ورد لشبونة.
كلّلونيَ بالورد
كلِّلُونيَ بالوردِ،
كلّلونيَ بالوردِ
بلا رَيْبِ:
بوردٍ ينطفئُ،
على جبينٍ ينطفئُ،
في التّوِّ، عمّا قليلٍ.
كلّلونيَ بالوردِ،
بأوراق زائلةٍ.
ذاكَ يكفيْ.
كان صديقي البرتغالي أنطونيو قد أخبرني أنّ قبر بيسوّا في لشبونة، في دير الدومينيكيين منذ عام 1988 وقد نقل بالذكرى المئوية لمولده.
وهو لم يعد في مقبرة مفتوحة على الهواء الطّلق. مسٌّ من الحزن أصابني كيف لهذا الكاتب الذي تحرر من بيسوّا نفسه أن يُحصَر تحت عامود من رخام كيف تعدد ليعالج ألم الوحدة؟
“لأجل ماذا تتطلع أنت إلى المدينة البعيدة؟
روحك هي المدينة البعيدة.”
الشّعر لديه هو اقتناص طريدة من سرب الزّمن، وتحنيطها أو إطلاقها، كأنّه فيلق من الشّعراء المحمّلين بكل أنواع الأدوات اللازمة لإدانة الوحدة، فهذه معجزة بيسوّا.
يقول في اللاطمأنينة:
“كتبت قصائد كثيرة
وعليّ بالطبع أن أكتب أخرى
كل قصيدة لي تقول الشيء نفسه
كل قصيدة لي هي شيء مختلف
كل شيء هو طريقة مختلفة لقول نفس الشيء”.
كتب الشّعر الرّعوي والمتفعّل والحر، كتب بأسماء مستعارة لعشرات الشّعراء، وفي كل فترة كان يجز اسما جديداً في أتون الشّعر البرتغالي.
حتى أفرد له أنطونيو سارماغو رواية كاملة بعنوان “سنة موت ريكاردو يس″ تتضمن شخصياته وهي تطارده.
أمّا هو فقد جعل لكل شاعر منهم ببليوغرافيا خطّها بنفسه، له عمر ومدينة وموقف وطفولة وحياة خاصة، وجعل لكلّ اسم مستعار هويّة وشكلا ومهنة، جعل من شعرائه يتناكفون ويخوضون معارك شعرية مع بعضهم البعض وأفرد لكل واحد منهم عالما خاصّا مختلفا تماما عن الآخر واختفى خلف الجميع. آمنت بعض شخصياته بالتّنجيم والسّحر وأخرى بقيت متمترسة بشراسة خلف ماديتها. ثار بعضها على الملكية وأبقى بعضها مواقفه ثابتة من الشّعر الكلاسيكي والبورجوازية. لماذا هذا التعدد المثير؟ لماذا لم يصنع بيسوّا ما يروج عادة عن الشّعراء المميزين إنّ لهم بصمة خاصة يمكن معرفتهم بمجرد الإنصات إليهم؟
من لا يستطيع التحرر من بصمته الخاصة وصوته الخاص هو أسير صورته عن نفسه. هجا شعراءه وبرّر لهم، كان حين يتنقل متقمصا إياهم وحين يكون أحدهم يحبّه لدرجة الشّفقة وحين ينسلخ عنه يقاومه لدرجة التّدمير بخلق نقيضه.
وبعد أن فعل كل ذلك كتب ليقول:
“أحس أن لي قيمة لأنني ولدت
فقط لأصغي إلى هبوب الريح”.
من حظّنا أن يتلقفه كاتب كبير بحجم تابوكي الإيطالي من جذور اللاتينية الحيّة، يحترف الإيطالية وشغوف بالبرتغالية، ليستطيع أن يفكك أسراره.
كلّما فكرت به أن رياض صالح الحسين هو أحد شخصيات بيسوّا، وبمعرفة بيسوّا ربّما نرى ظلا آخر لرياض الذي مات في الثّامنة والعشرين.
كان ينقص بيسوّا روح رياض الطيبة، وشجاعة رامبو في اقتراف الصّمت، إنه نوفمبر على أيّ حال شهر هؤلاء جميعا. مثلما العجائز يخشون من فبراير فالشعراء يقطفهم عادة شهر نوفمبر.
________
*العرب