قَبْلَ العينِ أحياناً


*زاهي وهبي
«الصوتُ زهرةُ الجمال»
زينون الإيلي

قال الشاعر يوماً «يا قوم أذني لبعض الحيّ عاشقة / والأذن تعشق قبل العين أحياناً»، لعل بشار بن برد لم يقل ما قاله فقط لأنه كان كفيفاً لا يرى بعينيه أسوة ببقية الناس، بل أيضاً لإدراكه بالتجربة المُعَاشة أن الأذن تصير عيناً في الوقت الذي نفقدُ فيه حاسّة البصر، وفي حالات أخرى كثيرة أيضاً، فالإنصات والإصغاء يحملان صاحبهما الى أماكن لا تُدرَكُ بالبصر لكنها تُرى بالبصيرة. الموسيقى خير مثال على ما يمكن أن يفعله الصوت والأمداء التي يفتحها ويصل اليها، لِنُغمِض أعيننا قليلاً ونصيخ السمع لمقطوعة موسيقية نحبها ونكتشف بالتجربة كم من نوافذ يفتحها صوت الموسيقى في جدران العتمة، أما في العمل الاذاعي (مثلاً) فيحلّ الصوت مكان صاحبه، على المذيع أو الممثل الاذاعي إيصال الحالة أو الشخصية التي يجسدها الى المستمع بواسطة صوته العاري، ليكون الصوت بديلاً من الصورة المتحركة لا الثابتة، ومعبِّراً عن كوامنها ودواخلها أيضاً، وهكذا ينقل الصوت الحالات الشعورية والنفسية كلها فرحاً وحزناً وحنواً وغضباً وإعجاباً واستهجاناً…الخ.
ليس فقط تمثيلاً يلعبُ الصوتُ لعبته، في الحياة اليومية يمثِّلُ الصوت الأداة الأهم للتعبير عن مكنوناتنا، لا لأنه حامل الكلمات فحسب، بل لأنه حامل الدلالات أيضاً، نستطيع قول عبارة صباح الخير بطريقة يَشْعُر معها سامعها أنها معزوفة موسيقية، ونستطيع قولها بطريقة تبدو فيها أقرب الى الشتيمة. في هذه الحال لا تعود كلمات المشافَهة وحدها ما يقول المعاني والدلالات، وإنما الأسلوب الذي تُقال فيه تلك الكلمات. ربما لم تكن عبثاً تلك التسمية التي أطلقتها العرب على أوتار الصوت (vocal cords): الحبال الصوتية. فالحبال تحيلُنا فوراً الى ألعاب السيرك البهلوانية، وقديماً قالت العرب عن اللعوب الماكر: يلعب على الحبلين. ولئن اعتبرنا فن الكلام لعباً تغدو التسمية في مكانها تماماً.
لعلنا ذهبنا بعيداً بعض الشيء، لكن لولا الصوت لكانت الحياة ناقصة، ومَن منا لا يعشق صوتاً ويأنس اليه. في البدء يكون صوت الأم، يُقال إنَّ الجنين داخل الرحم يعتاد صوت أمه، وتغدو كلمة ماما حين ينطق بها بعد ولادته هي الأحب الى القلب. في كثير من حواراتي التلفزيونية كنت أسأل ضيوفي عن الصوت الذي يودون استعادته لو استطاعوا اليه سبيلاً، كانت الإجابة الغالبة ممن فقدوا أمهاتهم: صوت أمي. بعد صوت الأم الذي يربطنا فيه حبلُ سرَّة لا مرئيٍّ، نألف أصواتاً ونعشقها، منها ما نعتاده بحكم العِشرة والظروف، كوننا لا نملك حق اختيار الذين نسمع أصواتهم في البيت والعمل والأماكن العامة، ومنها ما نختاره طوعاً أو شغفاً، وبوجه خاص ما يشكّل مكتبتنا الموسيقية والغنائية حيث للناس فيما يعشقون مذاهب، فما نحبه ونهواه قد يراه غيرنا مزعجاً وبغيضاً، والعكس صحيح. ثمة أصوات تحظى بنوع من الإجماع عليها، وتدخل ضمن مكوِّنات الوعي والوجدان الجمعيين، معظمنا يعرف كم كُتِبَت نصوص وقصائد في مديح صوتي السيدتين أم كلثوم وفيروز، ومَن ينسى النبرة الخاصة التي كانت تميز طريقة السيدة فاتن حمامة في الكلام؟
بعيداً من الغناء والتمثيل، بمعنى آخر بعيداً من «الأصوات العامة» التي تغدو مثابةَ مشاع أو ملكية عمومية، ثمة أصوات خاصة جداً، أشبه بتلك الكراسات الصغيرة التي كتبنا عليها بواكير عواطفنا ومشاعرنا الأولى، نحفظها غيباً ونحتفظ بمكانة مميزة لها في القلب والمسامع التي ترهف وترنو وتقفز فرحاً كلما تحركت حبالها أو أوتارها، لا نتحدث هنا عن أصوات الطبيعة التي تعزف سمفونية أزلية تشترك في أوركستراها الريح والمياه والأشجار والغيوم والأمواج والكائنات التي تنادي باريها، بل عن أصوات بشرية ننصت اليها بشغاف قلوبنا قبل آذاننا. فهل يعشق الإنسان صوتاً مثلما فعل ابن برد؟
في التاريخ، وكذلك بين شفاه الأمهات حكايات وحكايات عن أصوات فعلت فعلها، منها ما أيقظ غائبين عن الوعي ومنها ما رد كائناً مسحوراً الى سيرته الأولى، وكم مِن عاشق متيم وقع «صريعَ» صوتٍ وحين التقى صاحبه أُسقِط في يده لعدم التماهي بين الصوت وصاحبه، فعاد خائباً مكسور الخاطر والأحلام. بلى، نعشق صوتاً ونهيم به. لكن هل تركت التكنولوجيا الحديثة «ستراً مغطى»، هل لا تزال ممكنة لعبة الاغواء والإخفاء والاختفاء؟ اليوم بكبسة زرٍّ يصل العاشق الى معشوقته صوتاً وصورة. كثيرٌ من أغنيات الزمن الرومانسي لم يعد تنطبق على واقع الحال، فهل طغت الصورة على الصوت، وصارت ممحاة ما عداها؟ لنا عودة.
_______
*الحياة

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *