منصف الوهايبي
قليلة هي النصوص التي تباهي بها اللغة نفسها، أعني النصّ الذي تكفّ فيه الكتابة عن تمثّل ثنائيّة الكاتب والمكتوب. والأمثلة التي تحضرني قليلة جدّا، فمن القدماء يمكن أن نذكر التوحيدي في «الإشارات الإلهيّة» والنفّري في «المواقف والمخاطبات»، ومن المعاصرين بِشر فارس في «جبهة الغيب» ومحمود المسعدي في «حدّث أبو هريرة قال»، و»مولد النسيان» و»أيّام عِمران»، وأدونيس في «مفرد بصيغة الجمع».
وأنا لا أسوق هذه الملاحظة اصطناعا تحت تأثير بعض المقاربات البنيويّة التي تغفل في الجملة عن سابق قصد وإضمار، الذاتيّة المبدعة من النصّ؛ لتنكبّ عليه قولا موضوعيّا مستقلا بقوانينه وعلائقه. وإنما أسوق هذه الملاحظة منذ البدء، وأنا واعٍ وعيا تاما أو يكاد، أنّني واقع، لا محالة، تحت تأثير المقاربة الفينومينولوجيّة (الظاهراتيّة)، حيث الفكر لا يلاحق لحظة اشتغاله «مفكّراته» فقط، وإنما يلاحق نفسه وهو يفكّر. كذلك هي اللغة العاشقة التي لا تتولّى فقط تمثّل الأشياء من حولها في العالم، وإنّما هي لغة تضطلع بتمثّل ذاتها، وهي «ترمّز» أشياء العالم و»تُعلّم»عليها. لغة لا تحيلُ، وإنّما تحتفي بنفسها إبّان القول أو الكتابة، وتفاخر نفسُها بنفسِها.
وما دمنا قد ارتضينا لأنفسنا، ونحن نفتتح هذا التعليق على «اللغة العاشقة» موقعا بين المتوسّلين بمفاهيم الفلسفة ومقاربتها، فإنّ ذلك من شأنه أن ييسّر علينا، منذ البداية، الإعلان عن أننا نتنحّى عن مشاغل أهل البلاغة، فليس يعنينا ها هنا أن نسعى إلى تجنيس هذه النصوص، بهوية «الشعر» أو بهوية «النثر». وليس يعنينا أن نحدّها بحدّ «الخاطرة» ولا أن نعيّرها بمعيار القصّة، ولا أن نقيسها بمقاييس أنماط أخرى، وإنّما الذي يعنينا أن نقبل عليها نصوصا؛ تتولى فيه اللغة العربيّة تخييل نفسها في ولع بالذات نرجسي: بل في تألّه، يُجترحُ منه تأله الإنسان نفسه. لنقلْ إنّها ألوهيّة الرمز، إذ ليس شرف الفعل في الواقعة المباشرة الغُفْل من المعنى؛ فذاك أمر ميسور لكلّ كائن حيّ، بل في الترميز، أي في إقامة علاقة دلالة بين الأشياء، أي في «التدلال»، وهذا أمر موكول إلى اللغة إجمالا، وإلى اللغة العربية موكول «معنى» وجودنا، فالتدلال (خلق الدلالة) ليس واحدا، وأإّما كلّ لسان يجريه مجرى مخصوصا. والرمز ليس لاحقا على الوجود وأنما يتنزّل في الصميم منه. إنّه «بؤرة الأنطولوجيا» طبقا لشهادة إرنست كاسيرر. ولكنّ اللغة، إذ تقول وجودنا فهي تقول وجودها الخاص حصرا، إذ لا هويّة لنا خارج فضائها. وهي مقامنا أنّى حللنا، وهي السفر والرحيل.
ولا حاجة بنا هنا إلى التذكير بالفروق بين «الرمزيّة» أسلوبا بلاغيّا أو أدبيّا، و»الرمزيّة» من حيث هي اسم لمدرسة أدبيّة، فرنسيّة خاصّة؛ ترجع إلى نهايات القرن التاسع عشر وبدايات العشرين. وهي على وشيجة بالحداثة، وإن كان هذا لا يسوق إلى القول بتطابقهما. على أنّه ينبغي التذكير بأنّ استخدام الرموز بوصفها أداة من أدوات التعبير الشعري، يتجاوز بكثير آفاق المدرسة الرمزيّة بالمعنى الذي استتبّ لها مع بودلير ورامبو وملارميه خاصّة. وثمّة شعراء آخرون من أمثال نيرودا وت. س. إليوت. وبول إلوار وأراغون، والسيّاب وأدونيس وصلاح عبد الصبور ومحمود درويش وسعدي يوسف وسامي مهدي وبنّيس وقاسم حدّاد وحسن نجمي… يمكن القول إنّهم «رمزيّون» بطريقتهم، من دون أن يكونوا قد اقتدوا بالرمزيّة الفرنسيّة. وإنّما مردّ الإشكال الذي يثيره التصنيف ـ أيّ تصنيف ـ إلى الخلط بين العلامات/ الرموز والعلامات الأخرى المجازيّة أو الإشاريّة أو الأيقونيّة. وهو خلط سببه علاقات التشابه بين الرمز وهذه العلامات. ويبقى السؤال قائما كلّما تعلّق الأمر بالرمز في مثل هذه اللغة العاشقة: هل معنى الرمز كامن في نفسه؟ هل هو «شيفرة» شعريّة؟ أليس من خصائص الرمز لكي يكون رمزا، أن يتكرّر ويتوالد، ويكون له من القدرة على الإيحاء، ما يذكي الخيال والمشاعر؟ وما يقوله البعض من أنّ الانفعال الفنّي هو محصّلة عمل القارئ أو جهده، في بلوغ المعنى «المنطقي»؛ فيه مقدار كبير من الصواب. ونحن من منظور كلاسيكيّ، نفهم في المقام الأوّل؛ وبناء على هذا الفهم، ننفعل ونتأثّر. ولكنّ الشعر الحديث قلب هذه المعادلة منذ أكثر من قرن؛ فنحن نتأثّر وننفعل أوّلا؛ وقد نفهم بعد ذلك، وقد لا نفهم، وقد نُصيب من النصّ فضل معنى، وقد لا نُصيب. ومن منظور جماليّ خالص، فإنّ الفهم قد لا يكون ضروريّا، أو ربّما نحن «نفهم»، لأنّنا انفعلنا وتأثّرنا. وفي هذه الحال فإنّ مردّ الانفعال إلى معنى يجري في القول الشعري؛ وفيه سرّ خفيّ. قلت ما قلت إلى حد ّالآن، من دون أن أكون مأخوذا بـهذه «اللغة العاشقة»، ولو كنت لخشيت أن أتناسى نفسي؛ فيفلت منّي عنان القول، ويغدو تنويعا على مثل هذه النصوص. وما أكثر الذين تفتنهم، وما هم بأصحابها فيطلقون عنان القول رغبة في أن يكونوا شركاء في النص الذي يحبّونه، بل رغبة في أن يكونوا أصحابه دون سواهم. وتلك، على ما أظنّ، جبلّة خّصّ بها من فتنته الكلمات. لكنني تعقّبت قولي ببعض قسوة أحيانا فمسكته، حتى لا يُوهِم بامتلاك ما ليس له، وربّما تغاضيت أحيانا أخرى ضعفا عن مغالبة الإعجاب. يبدو لي أنّ أيّ لغة عاشقة هي نصّ تروي فيه لغته سيرتها، ترويها، في الظاهر، ضمن إيهام القارئ بأنّ الكاتب إنّما يؤرّخ لتدرّج اكتسابه ملَكة َاللغة، أولتناضُج قدرته على الكلام. ولكنّني أتأوّل الأمر على غير ظاهره؛ ولا جناح عليّ. وليس هذا لأنّ مسعى التأويل هو أبدا قلب الباطن على الظاهر، ولكن لأنّ اللغة تتبدّى عاشقةً؛ وقد احتلّت موقع الكاتب لتغدو كاتبة ذاتها وهي تكتبه هو .
ولذلك أتأوّل، أيضا هذه اللغة، من حيث هي تبديد للوهم الماثل في أنّ الإنسان يتدبّر أمر اللغة كيفما شاء؛ على قدر ما هي تتدبّر أمر كينونته، وتُنضجها على نار أصواتها وتراكيبها ومفاصلها. فكلّما أحبّ كانت هي التي تحبّ من خلالها، وكان المحبوب من جنسها أيضا، وكّلما ارتجف منه الجسد بهذه المناسبة أو تلك كانت هي التي ترتجف تحت جلدته أصواتا وتراكيب ومعانيَ، بل كانت هي الجسد عينه. وفي الجملة تكون الحياة كلها استعارة لغويّة، وقد سبق لنيتشه أن قال عن «الحقيقة» بأنّها حشد متدافع من الاستعارات والكيانات، ومن ضروب تشبيه الأشياء بالإنسان. ولكنّ المخلوق كان مكابرا فاستحوذ لخاصّة ذاته على ما للخالق، ولابدّ هنا من التذكير بألوهيّة اللغة وبكونها رحِم َالخلق .
ولكنّها ليست خالقا متعاليا يقذف بمخلوقاته مرّة واحدة وإلى الأبد، وإنّما اللغة خالق «ينخلق» ـ إذا جوّزت لنفسي هذا الاشتقاق أو النحت ـ هو نفسه في علاقة تضمّن بمخلوقاته.
تناظرٌ فريد بين الخالق والمخلوق، ذاك الذي يجري بين اللغة والمتكلّم. وتضمّنٌ عزيز ذاك الذي يداخل به كلّ منهما الآخر، فإذا حبّة الشهوة تنغلق على طرف اللسان لحظة تنغلق في الجسد. وفي كلّ ذاك تكون سيرة المتكلم سيرة اللغة نفسها فهي التي تنبسط عندما ينبسط، وهي التي تنقبض عندما ينقبض وهي التي… عندما هو الذي… وللقارئ أن يملأ الفراغ، كيفما شاءت لغته العاشقة، وشاء لها سبيلها المرسوم.
يتبدّى لي، إذن، أنّ اللغة العاشقة، هي اللسانيات إذ تكفّ عن أن تقول نفسها في خطاب علميّ تقنيّ، لتقول نفسها في خطاب إبداعي يلوي عنق الاستعارة على كتف المجاز، وتلتفّ فيه يُمنى التشبيه بيسرى الكناية. علم يقول نفسه بغير لغة العلم. وهذه مفارقة لا شكّ.
ولمّا كان كلّ نصّ إبداعيّ مشروطا بالتفرّد، فإنّ اللغة العاشقة لا تُجارِي اللسانيات في كلّيتها التي تنسحب على كلّ اللغات، وإنّما تمثّلها في اللغة العربيّة دليلَ انتساب وتميّز شأن كلّ نصّ إبداعي لابد ّ أن يكون ذا نسب وذا ميزة.
وأنّه لمن تفريد القول وتنسيبه ينبثق المعنى، فالمعاني لا تسبح هائمة في كلّية اللغة، وإنّما تتولّد تولّدا لحظة تلبِس الكلام بالمتكلّم، فهي (أي المعاني، في تلك الحال، محطّ تأويل ومجرى تشقيق وتجريح، وكلّها وسائط للغةٍ تفصح بها عن نفسها وتعلن).
وهل لنا أن نعلق على اللغة بغير اللغة؟
________
*القدس العربي