*كمال الرياحي
يمثل التجريب في الكتابة ظاهرة فنية طرقتها الأجناس الأدبية بكل أنواعها: الرواية والقصة القصيرة والشعر والسير الذاتية، غير أن التجريب حسب البعض شهد مرحلته الذهبية مع الرواية الجديدة في فرنسا ومؤسسيها ألن روب غريي وجماعة تال كل، وتواصل مع كلود سيمون.
لكن المطلع على الآداب الأميركية والإيطالية والتشيلية مثلا يلاحظ أن التجريب ازدهر قبل ذلك التاريخ وتلك الجماعة ويواصل حضوره بأشكال جديدة، وهذا ما نلمسه في رواية “قلعة المصائر المتقاطعة” للإيطالي إيتاليو كالفينو التي نقلها ياسين طه حافظ والصادرة مؤخرا عن دار المدى.
يسحب إيتاليو كالفينو القارئ في هذه الرواية إلى عالم غامض وغريب، الحركة فيه رتيبة والأصوات معدومة، عالم منغلق على نفسه وعلى أسراره يزيده إيتاليو كالفينو غموضا باختيار راو مصاحب ليروي الحكاية، راو لا يعلم شيئا غير ما يعلمه القارئ نفسه حتى تتماهى الشخصيتان فلا أحد أفضل من أحد في ذلك الغموض القاتل، يجسان سجائد الحكايا لينطلقا في رحلة لفك شيفرة مصائر متقاطعة في قلعة يبتلعها الغموض كغموض عوالم السحر.
حكاية رجال يلتقون في قلعة على طاولة أكل لا يستطيعون الكلام بسبب أمر مجهول فينطلقون في تشكيل المعاني ومداورتها بينهم بعد الفراغ من الأكل، رواية عن خلق المعنى عبر اللعب والتدبر بعيدا عن ضجيج الأصوات، رواية فلسفية عميقة تعيد تشكيل الإنسان بتخليصه من الضجيج الذي علق به عبر العصور لتعيده إلى مرحلة الخلق الأول ما قبل النطق، ما قبل الكذب.
هكذا تبدأ اللعبة بسحب اللاعب ورقة تشبهه من أوراق لعبة الحظ ليروي قصته للاعبين.
التجريب أو اللهو
لا يمكن لروائي درس جوزيف كونراد وانشغل طويلا بأعمال الفيلسوف التفكيكي جاك دريدا ومنجز الناقد رولان بارط أن يكون روائيا سهلا.
فصاحب نظرية الاختلاف والآخر المنشغل بالموضة والسيميائيات تركا أثرا في هذا الروائي الإيطالي المغرم في الآن ذاته بالأدب الأميركي، هو إذن خليط بين الثقافة الأوروبية الديكارتية والثقافة الأميركية الحية بواقعيتها والثقافة الرومانية العائمة على أنهار الفن والأساطير والعجائب.
كل هذه الخلطة الذكية مضافا إليها نزوعه إلى علم النفس التحليلي مع سيغموند فرويد ويونغ يتأسس عليها كتاب “قلعة المصائر المتقاطعة” الذي يصفه صاحبه قائلا “هو الأكثر من بين كتبي الذي أجريت فيه حسابات واحتمالات، وما من شيء فيه ترك عرضة للصدفة”.
في هذه الرواية يواصل إيتاليو كالفينو تشييد عالمه الذي أسسه منذ كتاباته الأولى داخل إستراتيجية التعقيد، فبمجرد أن تفتح الرواية تهجم عليك الصور قبل الكلمات لتجد نفسك أمام كم كبير من الصور تكتشف في ما بعد أنها أوراق لعب “التاروت”، وتحتار هل أنت مجبر على النظر إليها وفك شيفراتها لتفهم النص.
إن الكم الكبير من صور الورق يؤكد أن المسألة ليست اعتباطية أو حشوا أو زخرفا تشكيليا إنما الأمر متعلق بالمعنى -وربما كل المعنى- وبهوية النص.
لا يكتب إيتاليو كالفينو في الكتاب رواية واحدة وحبكة واحدة إنما يخترع لعبة سردية مرنة وذكية تجعل كل قراءة تصنع حبكتها فنكون أمام حبكات عديدة لرواية واحدة قد لا تعود واحدة رغم وحدة عناصرها.
وهنا عبقرية كالفينو الذي ذهب بالتجريب إلى أقصاه فهو لا يختبر لعبة كما فعل النرويجي غوستيان جاردر مع لعبة البيلوت في روايته “سر الصبر” بل جعل من هذا “الخارج أدبي” هو الأدب نفسه ومن اللعبة أو الشكل متن الحكاية نفسها.
الهيكل المعماري
وهذا ما يؤكده كالفينو في قوله “الهيكل المعماري أضحى متطابقا مع الرواية ذاتها، أنا مسكون بالأهمية الطاغية لهيكل ومعمارية أي كتاب أكتب”.
يعمد كالفينو في هذه الرواية بأسلوبه البنيوي والمتمسك بمعمارية النص إلى اختبار الصمت كطاقة جمالية لقول الحقيقة أو حقيقة ما، والصمت لغة يمكنها أن تروي الحكايات وتسرد سير اللاعبين، ومن هنا تأتي خياراته الجمالية وبرنامجه السردي القائم على التناظر بين الصورة والحكاية أو توليد المعنى من الأيقونة، توليد الكلام من الصمت، الصمت الذي ينهض في الرواية بليغا من خلال هذا اللعب الذي يحبك به اللاعب لعبته أو حكايته عبر عرض وتجميع بعض الأوراق الحاملة صورا خاصة لتلخص حياته أو مأزقه.
وهذا البناء يحتاج إلى مهندس عارف بتعقد البناء ومتطلباته، لذا لا يقدم كالفينو على كتابة رواية إلا بعد أن يعمل كما يقول للتخطيط لها وفق حسابات كبيرة لكي لا ينهار البناء، فيبدو للمتابع السطحي لأعماله أنه مهووس بالتشكيل وغير معني بأي مواضيع مهمة، والحق أن هذا الاهتمام بالشكل لم يجعله شكليا صرفا بل مهندس معان عميقة تهم الإنسان في كل زمان ومكان.
اهتمام بالأبدي يذكرنا ببداية انطلاقته بتجميع الخرافات والأساطير، وهو ما يؤكده رولان بارت في حديثه عن لغة كالفينو الذي بإمكانه استعارة لغة القرن الـ18 ليقول الواقع الراهن. إنه مؤمن بإستراتيجيته في الكتابة باستبعاد مبدأ الصدفة، إذ الأدب عنده حسابات صارمة لبناء مشدود.
_____
*الجزيرة