‘برتقال مرّ’ المذاقات المؤلمة للحب والأنوثة



ممدوح فرّاج النابي

تلعب السَّاردة في رواية “برتقال مر” للروائية اللبنانية بسمة الخطيب على أوجاع الأُنثى، بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة وما يتخلّلها من إحساسٍ بالمهانة في مُجتمعات ذكورية تُعْلي مِن قيمة الرجل/ الذكر على حساب الأنثى، وتجعل من البنت مرادفا للموت والخطيئة، وهو ما يؤهلها لأن تكون تمثيلا فريدا لرواية الجندر، فتتغلغل في مشاعر الأنثى المُنكسرة كما في نموذج خالتها فاطمة، أو تعزف على هشاشة العلاقة وتصدعها بينها وبين أمها بسبب أنها خالفت أمنيتها بأن تكون ولدا. لا ُتفرِّق السّاردة بين مُعاناة المرأة القبيحة كما كانت تُعاني الرَّاوية ذاتها من توبيخات أمّها، وسخرية زميلاتها في المدرسة، وبين مُعاناة المرأة الجميلة، في صورة خالتها فاطمة، فقد كان جمالها لعنة عليها.

ندوب الماضي
ترصد الرواية عن قُرب طبيعة الأنثى وهواجسها، وتقترب من تفاصيل دقيقة تعكسها في صورة سقوط قطرات الدم الفجائية، التي تُعلن بداية طور جديد في حياتها، كما ترصد الذعر من العيون التي تتلصص على تفاصيل جسدها، بينما هي تحاول أن تتمرد على طبيعة الجسد، فكانت لها العيون بالمرصاد، لتبرز في تحدٍّ واستنفار لمكامن الذكورة الوجلة.
وفي جانب آخر تقدم الرواية صورة المرأة الخبيرة بفنون الطهي والطعام الذي يعدُّ بشوق للمحب المنتظر منذ زمن، رابطة بين الحب والطبخ فـ”الطبخ والحبّ ليسا شيئيْن مختلفيْن، لأنّ نتيجتهما واحدة وباعثهما واحد. حين تطبخ تقوم بفعل حب، وحين تحب تفكّر في أن تطبخ لحبيبك”. عبر هذا الربط المبرِّر لتواجدها في المطبخ تقدِّم أنواعا شهية تعكس بها ثقافة وسمات المطبخ اللبناني، في توظيف فني لم يأتِ كدخيل على أحداث الرواية، وكأنه استعادة لرواية الألماني باتريك زوسكيند «العطر» التي احتوت على أسرار صناعة العطور، ونسب التركيبات المستخدمة، وهو ما قدمته هنا السّاردة عن أسرار الطهي، والخلطات المستخدمة، فتسهب الراوية في عرض مقارنات بين أنواع الأطعمة المختلفة التي تنتشر على طول خط الرواية، وعن أوقات نضجها وعملها وتقارن بينها.
يتصارع الماضي، على مستوى الحكاية، بندوبه وهزائمه مع الحاضر، ولكنه يهزمه ويصيب الأبدان والأرواح معا بالجروح، وإن كانا يتداخلان على مستوى السَّرد، فالسَّاردة تربط بين هزيمة خالتها في الحب وهزيمتها هي في استدرار حنان الأم الذي ضاع لسبب لا علاقة لها به، فتبدوان هي وخالتها وجهين لعملة واحدة، رغم الفوارق بينهما، كانحسار الجمال عنها، والذي يذهب لصالح خالتها، أما المشترك بينهما فإلى جانب الهزيمة كان الحبيب ذاته.
فالخالة فاطمة التي كانت أجمل فتاة في القرية ويتسابق الجميع للظفر بها، إلى أن تمّ للحكيم الذي كان يعمل في روسيا، التعرف عليها، فخطبها، لكن لأسبابٍ مجهولة تمّ فسخ الخطبة، وهو ما كان بمثابة الندبة الكبرى لهذه الخالة الذي انتهى بها الحال إلى الانكسار وحتى لا تجرح كبرياءها تركت المدرسة، وإن كان كبرياؤها لاحقا انكسر على أعتاب هذا الزوج الذي صار متحكما فيها، أما الرَّاوية فقد تكبّدت في كافة الانتكاسات للعائلة وأولها لأمها عيشة التي كانت تراهن على أن ما تحمله في بطنها هو ولد، وأسمته جمال، لكن خاب ظنها. ومن فرط إيمانها بأنها سبب هذه الانتكاسات للعائلة تأخذ الخطوة الأصعب بالانتقال من القرية إلى بيروت، من أجل هذا الذي مازال عطره ممزوجا في جرحها القديم منذ إصابتها ومجيئه لعلاجها تاركا خلفه «بقايا عطر رجوليّ».
تضفير السرد
على الرغم من أن الرواية قائمة على حكاية سببت ندوبا للجميع، دفعت بالسّاردة لأن تهرب من قريتها إلى بيروت، إلا أنها رواية تقنيات بامتياز، وهو ما أجادت فيه السَّاردة، حيث وزّعت عناصر حكايتها على ثلاثة فصول، أشبه بمقطوعات، أو وحدات نثرية شعرية، تمزج بين زمانين، أولهما ماضٍ يمتد إلى طفولة هذه الفتاة والعلاقة المتوترة بأمها عيشة التي كانت سببا في خلق شخصيتها المترددة، الخائفة، غيرالواثقة من نفسها، والخجولة، انتهت إلى انفصال تام بين الطرفين.
وثانيهما، حاضر لا يتجاوز زمنه إعداد الوجبة للقادم، وشراء الفستان والذهاب للكوافير، إلا أن الزمن الحاضر القصير استطاع أن يستولد الزمن الماضي الممتد إلى القرية ونسائها وعاداتها في الطعام والزواج والخطبة، وأحاديث النّسوة عن الجنس وتأثيرات الحرب.
تنحو الرواية لجعل حكاية الحبّ المجهض والأنوثة المقهورة المكرّرة في مرويات كثيرة، لأن تأخذ بعدا جماليا، يُعطي لها أهمية ومغايرة أيضا عبر اعتماد الرواية على شكل سردي يعمد على تضفير الحكاية، أو ما يمكن تسميته «السَّرد المُضفّر»، وهو مُستقى من حكايات ألف ليلة وليلة، التي لها حضور طاغٍ في الرواية وفي تشكيل وعي بطلتها عبر قصص الجن والعفاريت، فالساردة تدخل الحكاية من الزمن الحاضر، وهو مكتوب ببنط كتابي أسود مميز عن الزمن الماضي المستعاد، وعند الانتقال من الحاضر إلى الماضي، تقوم بضم الحكايتيْن معا، فتبدأ سردها عن الماضي بنفس نهاية السرد عن الحاضر، وهو ما يُظهر قدرة فائقة من السّاردة في أن تغزل من حكايتيْن مختلفتيْن في الزمان وأيضا في المكان، ففي أحد المقاطع ينتهي المقطع “لأجل الهريسة التي تحبها كثيرا”، ثم يبدأ المقطع الجديد في السرد الحاضر “أشتهي الهريسة فجأة”، ومن شدة التمكّن من حالة التضفير تطرح سؤالها وهي تسرد في زمن الحاضر ويأتي الجواب في الزمن الماضي. فتسأل في خطابها للمخاطب بالضمير الـ”أنت” «كيف نسيت الهريسة؟ (….) هل سبق أن أكلتها في عاشوراء كما فعلت أم نجيب وكررت لنا حكايتها؟» عند هذا القدر ينتهي السرد في الزمن الحاضر، لكن يأتي الجواب عن هذه الأسئلة وعن حكاية أم نجيب في الزمن الماضي.
ثمّة ارتباط بين زمن الحاضر وما تسترجعه من الذاكرة عن الماضي والطفولة. فحالة “المساج” التي تقوم بها عند الكوفير تستدعي من خلالها أحداثا عن الماضي ومهارتها في صُنع الحلوى التي تستخدمها النساء في تنظيف أجسادهن، وتقدم درسا في طقوس هذه العادة في الأعياد والمناسبات التي تجعل من النساء تطلبها لصنعها، وهو الشيء الذي يعوِّض دمامتها التي تسخر منها النساء. وعندما تتحدَّث عن هاجس الليل وعن حالة الترهيب منه، تسترجع على الفور ما كانت تصدره عيشة من قرارات بمنع أخواتها من الخروج ليلا حتى لرمي القمامة “لما يرتبط الليل في هواجسهم من مسرح المحرمات”.
يتنوّع الضمير السارد بين الأنا والأنت، وفي كثير من المقاطع يسيطر الأنت على الخطاب كنوع من الاستحضار له “لا تعتب على تحايلي، هناك الكثير من التحايل في عالم الطبخ” وفي بعض الأحيان تزاوج بينهما في مهارة، كما في سردها عن خالتها وذكريات زواجها السيّئ، وهي في حالة تحسُّر لما آلت إليه.
تنتهي الرواية بتغيير المسار ليس فقط للطبيب الذي ترك جراحات القلب وصار مخرجا لأفلام تسجيلية، وأيضا بحالة من التعاطف مع خالتها فاطمة.
______
*العرب

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *