‘شهيٌّ خسارة كل شيء’ مراثي دونالد هول الأخيرة


عماد الدين موسى

تحتلّ قصائد الشاعر الأميركي دونالد هول الأخيرة والتي أتت بعد رحيل زوجته الشاعرة جين كنيون، جرّاء إصابتها بسرطان اللوكيميا، مساحة جليّة ضمن مجموعته الشعريّة الجديدة “شهيٌّ خسارة كلّ شيء”، التي أصدرتها مجلة نزوى بترجمة زاهر السالمي هذه السنة (2015)، قصائده هذه، بتحرّرها من ثقل البلاغة والمجاز، ونزوحها إلى مفردات اللغة اليوميّة العابرة بالمفهوم الرحب والعميق، تأتي أشبه بالبوح السرديّ الشفيف، وتستردّ بحميميّة التفاصيل المؤلمة لأدقّ اللحظات الحرجة من ألم أو حزن، وشعور أكيد بالفقد، كشريط لا نهاية له من الصور.

ولد الشاعر الأميركي دونالد هول عام 1928. وقع في شبابه الأول تحت تأثير “إدغار آلان بو” إلى درجة أن قال “كم وددت أن أصير مجنونا، مدمنا، موسوسا، ممسوسا، ملعونا؟ كم وددت أن تكون لي عينان عميقتان تتقدان كالجمر، أن أكون سوداويا، وجذابا، في آن واحد؟”.
في السادسة عشرة من عمره، حضر مؤتمر “كتّاب رغيف الخبز” وهناك تعرّف للمرة الأولى في حياته على الشاعر الأميركي الكبير “روبرت فروست”، وفي العام نفسه نشر أول أعماله. درس في جامعتي هارفرد وأكسفورد وعمل محررا لمجلة جمعية أوكسفورد للشعر، ومحررا أدبيا لمجلة إيزيس، ومحررا للشعر في مجلة “ذي باريس ريفيو”.
وفي عام 1969 التقى بالشاعرة جين كنيون عندما كان يقوم بالتدريس في جامعة ميشيغان حيث كانت كنيون تلميذة له. وتزوجا في عام 1972، وخلال عام 1989 تبين أن هول مصاب بسرطان القولون، فخضع لعملية جراحية، لكنه انتكس مرة أخرى في عام 1992 ونال السرطان من كبده أيضا، وبعد جراحة أخرى وعلاج كيميائي مطول، علم أن فرصته في الحياة لمدة خمس سنوات أخرى لا تتجاوز نسبة ثلاثين بالمائة. وفي مطلع عام 1994، وفيما كان دونالد وجين يتخوفان من عودة السرطان إليه من جديد، إذا بهما يكتشفان إصابة جين باللوكيميا، لترحل بعد خمسة عشر شهرا.
من هذه الوقائع يمكننا أن نفهم أهمية وفاة زوجة الشاعر وتأثيره العميق في قصائده. يقول الشاعر “سأحمل زوجتي/ صلعاء كمايكل جوردن/ عائدين إلى كلبنا ويومنا”، كما نلامس كذلك من خلال مجموع قصائده رؤى وتأمّلات فلسفية حول أسرار الوجود ومواصلة المسير نحو المصير، المجهول غالبا، ما يجعلنا نتمسّك بالحياة والأمل أكثر فأكثر: كلّ صباح أسلك دربي/ بين المماشي، المصاعد،/ ومحطّات الممرضات إلى غرفة “جين”/ لأستجوب مساعدي القبر/ الذين رعوها طوال الليل/ بينما المحركات الهائلة للسفينة/ تدير مراوحها.
تتسّم قصائد دونالد هول بالبساطة المذهلة، وتدنو من روح المراثي العذبة وصفائها، بقدر ما تغرف من شعريّة الحياة وأدواتها “أسبوعا بعد أسبوع، جلست بجانب سريرها/ مع قهوة سوداء وجريدة الغلوب”، ونلاحظ بوضوح عناية الشاعر بالحركة وليس بالسكون، وما “السفينة” السائرة أبدا، في قصيدة “تتطوّح السفينة”، سوى دليل على الرغبة في البقاء والديمومة، ومحاولته الدؤوبة للانتصار على المرض “آمنت بأن السفينة/ راحلة إلى مرفأ/ للإفطار، العمل، والحب، وهي هنا عكس مركب رامبو الثمل والذي انتهى به الأمر إلى المجهول”.
تتضمن المجموعة ثماني عشرة قصيدة، ومن أبرزها: إقرار، السرير المطلي، مرضها الطويل، ما بعد الحياة، تفاحات بيضاء، مطبخ صيفي، سمر ما بعد اللعب، وعندما كنت شابا.
هذه العناوين تشير إلى مفردات جديدة أضيفت إلى قاموس هول الشعريّ، إضافة إلى حوار مطوّل -منقول عن مجلة سرديّات- يلقي المزيد من الأضواء على جوانب هامّة ومفصليّة في حياة الشاعر وعمله منذ البدايات الأولى وحتى السبعين من عمره، ويطرح نقاشا موسّعا حول قصيدة النثر في أشكالها وحالتها الراهنة، دون أن يسهو في حديثه عن تذكار زوجته الشاعرة كنيون “التي مازالت تزدهر في موتها” على حدّ تعبير الناشر.
أيضا ضمّ الكتاب دراسة بعنوان “الشعر والخلود” يقتفي فيها صاحب “قنّاص في مضيق” زاهر السالمي، الأثر وراء الظلال والرموز التي تزخر بها قصائد دونالد هول، آخذا من قصيدة “السرير المطلي” نموذجا للتوغّل إلى عوالم شعره الداخلية منها والخارجية في آن معا.
——-
العرب

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *