الرقصة الأخيرة


* خزعل الماجدي

كان من الصعب استدراج حياتي إلى هذا المغطس

فقد كانت ناحلة وصفراء
ولا حدود لشقوقها
لن أمنع رحلات السيوف إلى أعماقي
لكني سأرقبها وهي تغور هناك
رماديةً مثل الخريف
حيث التيار الواهن يلاحقها
وحيث العمر يكوِّم ألواحاً منسيةً
باتجاه السماء، 
هناك.. هناك
حيث تدور النسور
ويرتفع صوت النحيب
انظري حلقات شعركِ السود وهي تنزل على
رقبتكِ وصدركِ مثل الخواتم
وأعرف أن طريقي الوحيد هو هذا
هنا.. حاولتُ أن افهم الربيعَ أكثرَ
وتهتُ في دخان عطركِ
هنا شممتُ الكحول ولمستُ الندى
العودة إلى فراشكِ
والنوم بين أعمدتكِ
أغلقتُ راسي
وعثرتُ على حلمي الشاسع
لكني لن أرقد في سلام
فرحلات السيوف ما زالت طائشةً في أعماقي
والنسور.. النسور
هناك تدور في الأعالي.
* * *
الرمل المهجور
حيث كانت آثار أقدامكِ
وشكل جسدكِ الساخن
كما في عين الحوت
حيث شهوات الصلصال
كما الجنون يدفعنا مع التنين نحو الموت
المعاني لا تتواصل فينا
تلك أيامنا المهملة في الرمال مثل آثار قدميكِ
فاضَ بي حنين إليكِ
وفاض معي العطر الأسود وغلالات الربيع
ماذا يكون عليّ أن أتّقيه
الجمال أم الخمر منتقلاً في عروق الأغاني
غبار على وحدتي
لكنها تخدعني بالذكريات
زهرةٌ في يدي تتذكرُ
وقربي نهرٌ
لا مراكب فيه لكنه محمّل بالأخشاب القديمة
ماذا يكون عليّ أن أتّقي
حدقة الذئب تلاحقني
وأنا في شرود وحزنٍ
حيث آثار قدميكِ
وحيث جسدكِ يتلاطم فيَّ
وتموت البذور ويجفّ النبيذ في الكؤوس
وحيث ينطفيء الحجر
هنا أسفل اللوح أو على النهر
أو في حدقة الذئب
وهناك في أعماقي
مازالت السيوف تغطسُ
والنسور تدور في الأعالي
* * *
طائر النيزك يضرب قلبي
ويقتحمُ عربتي
الثيران تجرّ قوافل الآلهة في السماء
وزبدُ الموج يدهنُ عنقي
تومضُ العلامة الصفراء
والرشقات النارية
والفضة لامعةً على فخذيكِ
مرت عبر شغافي
وفصلني عنها خريفُ أحزاني
لكنها تحشّدت بالكحول وفاتت
من خلاياي إلى الماء
اردتُ العودة
وحاولتُ ..لكني لم استطع استعادة نجم الشمال
لماذا كان عليّ أن أقف وحيداً هنا في صحرائي
والأشجار تسعى بعضها لبعضٍ
نجوم ناعمةٌ تنزعُ في أعماقي مثل الحصف
محاولة الصعود إلى عينيّ
أحياناً في الليل تضيءُ قليلاً
ثم تغطس في مياه الأعماق
والبكاء يتسعُ بينما أحدقُ في السماء
وارى السيوفَ نازلة منها نحو أعماقي
والنسور.. النسور
هناكَ تدور في الأعالي.
* * *
وهمٌ لازمني مذ قرأت الألواح
ومذ تفرّست في اسطوانات المعابد
وتهجّست بأناملي نقوش التوابيت والأضرحة
حدثتني الخرافة هكذا
حدثتني ولم تملّ مني
عرفت أن حياتي لدغتها الأفعى التي هبط 
من فمها الكلام المقدّس
الطبول تغوص في الوحل
بينما صانعُ الأساطير يرقص رقصته الأخيرة
جعلت الروح هواءً
وتهجّيت بصعوبة كلامَ الأيام
لا أحد رعى حزني.. سوى امرأةٍ لم أرها
هناك في ملاذٍ مضطربٍ
وهي تقفُ وسط العاصفة مثل إلهةٍ باسلةٍ
لا تخاف
قلبها النديِّ من ذهبٍ ومرمرٍ
ترد ّبه الظلام
الصناديق مملوءةٌ
وأنا ملقىً على الرصيف
أهذي بأغنية حبي
الوحشة ليست هكذا.. 
حتى النفي وحتى الموت ليس هكذا
كلّ بريقٍ في زاويتي خبا
وقصبتان مرتفعتان حولي
وأنا أدور راقصاً
بينما الناي ينحسرُ شيئاً فشيئاً
والطبولُ غاصت كلها في الوحول
وأساطير تبددت في دخان المدينة
فتحت النافذة وشمّمت زهرةَ حبي الوحيد
وكدت أنام
الخرزُ تناثر حولي
وغزا شعري الفجرُ
وكانت يداي مخضبتين في النهر
بينما سيوفٌ تتساقط في أعماقي
وهناك.. هناك
نسورٌ تدور في الأعالي.
* * *
كلّ ما كان للنهر يعود إليه بعد الجفاف
حين أصبحت يداي مأوىً لأغصان الشجر
حتى نوافذي لم تعد
الترانيم سرعان ما شتمتها رائحة المدينة
وعلى الضفاف تحتضر الأسماك
وتزداد حركة القواقع بطئاً
وهناك حيث هرع الجميعُ إلى قبورهم
بقيت وحيداً أرقص
وأصنع أساطيري من الطين
لكنها تنفرط في يدي
ذهب كل ما يعود إلى النهر
ولم يكن هناك رفيف
سوى بقايا الناي القديم وعيون الذئاب
حيث الدخول في النوم العميق
زائغ العينين من خمرٍ أو هياجٍ أو نسيان
حيث أقف في مدينة أشباح
وأوقظ بلطفٍ جمري القديم وآلهتي المنسية
لكنها لا تجيب
نامت قبلي في الشقوق وتحت التراب
ولم ينفع إخراجها من ذلك الصقيع
حرارة العالم اختفت
ونضبت الأرواح
اختفت من الحب الأغاني
والكابوس الذي سقط في المدينة
ما زال مثل لصٍّ يتجول
الناسُ مثل القشِّ يترنحون أو يتكوّمون
جاءوا عبر الخوف
وتمددوا في شقوق
ركضوا إلى هاويتهم بعيداً مع القمر
وأنا.. أنا أيضاً لم تعد لي ساقان قويتان للرقص
برغم أن في صناديقي الكثير من العكازات
لكني على وشك أن أدفع بها إلى الماء
فقد كانت رحلة متعبة
ولم يعد ظهري يقوى على حمل كل هذه الصناديق
أما أعماقي فكانت تتلظى بالسيوف
والنسور هناك
هناك تدور في الأعالي.
* * *
أنهض بسلالي
وأنتبه إلى الشعلة الآفلة التي بقيت في الشموع
ذئابٌ كثيرة مرت قربي
وأحجار كثرةٌ سقطت عند أقدامي
الأغاني السود كثيرة أيضاً
وهي تنطلقُ مع صباح كل يوم
وتظهر كما بقعٍ في السماء
جلست على الحجر مع الأغاني
ولم يعد بأمكاني الرقص
إنتظر النهر أن أقوم
انتظرت مني الأشجار والطيور
ليست بعيدةً
كنت أتوق لغابتي
وأفتش المغاور
نامت أغنياتي الكثيرة
ولم يعد لها سوى الصدى والغبار
فتحت صندوقي وطيّر أحلامي مثل عصافير جائعةٍ
سقطت في النهر اليباب
طلبت منها أن تعود إليّ
لكنها لم تعد
لا عزاء لي
كلُّ يومٍ في (كركدريل) أجلس وحيداً
وأتنفس
ولا لون لساقيَّ
وكما أجعل من الدموع غصوناً
كنت أرتفعُ مثل زقورةٍ
لأرى من فوق
جذوري كيف تتلظى بالسيوف
والنسور هناك ..هناك
تدور في الأعالي.
________________
* شاعر من العراق (ألف ياء) .

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *