«مرايا الشمس» لمحمد حسين بزي.. شهقات شعرية


محمد علي شمس الدين


قصائد «مرايا الشمس» للشاعر محمد حسين بزي (دار الأمير للثقافة والعلوم 2015) تنعقد عن امرأة. الغلاف الفني (لأحلام عباس) لوحة معبّرة بالزيت لامرأة جالسة بنظرة مواربة، معقودة اليدين، وعلى أطراف أصابعها اليمنى تفاحة تكاد تهرب من الأصابع. خلفها شمس أرجّح أنها شمس فرعونية لأن الفراعنة القدماء عبدوا إله الشمس «رع» وصوّروه في معبد آمون على صورة شمس مستديرة الوجه ذات قرون أو جدائل من حجر.

في تأريخ القصائد اثنتان منها مكتوبتان في القاهرة وواحدة مكتوبة في الاسكندرية. والقصائد غير مرتبة في الديوان تبعًا لتسلسل أوقات كتابتها، ولكن تبعًا لشكلها العروضي، بدأ الشاعر بالقصائد العامودية (4 قصائد) لينتقل إلى قصائد الوزن التفعيلة المفردة (14 قصيدة) ويُنهي بالشعر الحر أو قصائد للنثر المتحرّرة من أي وزن وتملأ القسم الأخير من الديوان وهو القسم الأكبر حجمًا (13 قصيدة).
تلتبس إيزيس بعشتار في أكثر من قصيدة، لكن الشمس تصالح بينهما في قصيدة «وعادت عشتار» (الإسكندرية 2009) يشير الشاعر إلى غيابه (فيها) من ألف عام، ولولا تلثُم الأفق قبيل الغروب، لكان حامل الشعر للشمس. وفي القصيدة التالية «وجهك البحر» تدخل إيزيس في القصيدة وكأنها وجه آخر لعشتار، إلا أنها هنا وجهها المائي، وترخي جدائلها فوق الموجة الزرقاء، وتصبح أسطورة فوق شيب الموج.
لا يعني ذلك أنّ الديوان ذو نزعة أسطوريّة، بمعنى أنّ جوهره أسطوري أو أنّ القصائد التي يرد فيها ذكر عشتار أو إيزيس، هي قصائد تنمو من رحم الأسطورة وتنبعث منها، كما فعل خليل حاوي في قصيدة «عودة أليعازر» أو في قصائد ديوان «نهر الرماد»…
ولكن استعارة الشاعر لكل من عشتار وإيزيس، كانت استعارة صوريّة، بمعنى أن الغالب على روح القصائد هو الصورة وليس الرمز… فالرمز حين يرد، يخدم الصورة وليس العكس. وهذا الأمر نلمسه في أكثر من موقع من القصائد المتنوعة، بدءًا من العنوان… فعنوان «مرايا الشمس» عنوان صوري، ومن خلاله تنعكس صورة الكائنات التي تضيئها الشمس في المرايا. ولعلّ المقطع التالي حول الرقص من قصيدة «هيا ارقصي» يوضح غلبة الصورة في النص الشعري على أي عنصر آخر، سواء أكان عنصر الأسطورة أو عنصر الاتباع أو عنصر اللغة…
«هذه قبضة التجلّي خذيها رقصةً ودوري بها حتّى تتدلّى النجوم من خلخالك الأزرق وارقصي ولا تخجلي فالأرض عريانة تحت قدميك والسماء من دون دوران شهي….».
الخاطرة الشعرية تبدأ من حركة الدوران وهي حركة النجوم والأفلاك وتنتهي بصورة النجوم وهي تتدلّى لعناقيد من خلخال المرأة الأزرق. في «قصيدة بلا عنوان» وهي القصيدة الأخيرة من الديوان بل يرسمها رسمًا. يغرس الألوان للقدمين. خصل الشعر، العنق البابليّة، النهدين الناطقين… بستان الجمر واللهب، ويُنهي بالجملة التالية: «فسبحان القدّ الأندلسي».
ولعلّ ثمة في المجموعة قصائد صغيرة يمكن اعتبارها بمثابة تماثيل شعريّة صغيرة بسبب شدّة التشخيص فيها والتركيز الصوري. قصيدة «مذ عشقتك» المكتوبة في صنعاء 1999 هي من هذا القبيل:
«انا مذ عشقتك فوق الكواكب أمشي/ وكل السماوات صرحي/ وكل الأراضين عرشي»….
لكأنّ القصيدة هنا مرفوعة فوق الأرائك.
إنّ الصوريّة التي هي أداة أساسيّة بيد الشاعر، أو إلى جانب الصورة أو معها، تبرز خاصيّة ثانية من خاصيات محمد حسين بزي من ديوانه المختصر. ما أسمّيه الشهقة الشعرية. والشهقة الشعريّة أساسها المفاجأة والبرق الشعري أو الاختزال. وهذه الشذرة قد تقرب من المُثل أو الصورة أو الحكمة، ولكنها شديدة التكثيف وعليها كان يعوّل البلاغيون العرب القدماء. لكنها في البلاغة الحديثة هي المفاجأة أو الضربة الشعرية التي لا تحتمل الإطالة وتُعنى باقتصاد الكلام عنايتها بالإصابة. وهي غالبًا ما تثير الدهشة أو اللسع. بعض الشعر الهايكو الياباني حول الطبيعة هو من هذا القبيل.
ما أقصده هنا هو أن محمد حسين بزي بذر شهقات شعرية في حقول متفرقة من قصائده ولا أقصد أن قصائده هي هذه الشذرات أو أنه يكتب على امتداد القصائد شذرات شعرية. ولعلي هنا ألفت انتباه الشاعر لهذه المسألة، التي أراها كقارئ، وأرجّح أنّ الشاعر لم يعمد لهذه التقنية ليتبناها في ديوان أو على امتداد قصيدة. لعلّه لوّح بها في مقاطع قصيدة «قولي بربك» الثلاثة وفي مقاطع من «قصيدة بلا عنوان». ولكنّ الديوان الذي بين أيدينا غير مؤسس على هذا الأساس الشعري أو على هذه التقنية. ومع ذلك نستطيع أن نلتقط روح الشهقة الشعرية أو نتصيّدها على امتداد النصوص وفي الثنايا. ويظهر الشاعر فيها كسابح في مساحات بحريّة، يأخذ بين شطح الموج وساعديه أنفاسًا ليستمر ويتنفّس.
لفت انتباهي في المقدّمة التي كتبها الشاعر لديوانه، قوله «كان حريًّا بالشعر أن يمتطي نقوشه وفي قلة من قصائد كان اختارها ضيق الوقت من مجموعة أكبر». وحين دققت في أوقات كتابة القصائد وأماكن الكتابة، لاحظت أنها موزعة على ستة عشر عاماً (1999 و2015) وهي مدة طويلة لديوان صغير من 100 صفحة… واللافت أكثر أنها مكتوبة في ثمانية عشر مكانًا وأربع عشرة مدينة عربية ما بين بيروت وبغداد والاسكندرية والقاهرة وصنعاء والدوحة والرياض وسواها…. وقد كتبت على هامش الديوان… هنا شاعر يحتاج إلى الوقت وأنه يكتب الشعر بين زحم الأعمال والأسفار. أعتقد بأن مَن يكتب قصيدة… بجمال وإحكام «قصيدة نزف الوجوه» مُطالَب بأن يعكس الصورة.
——–
السفير

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *