*ساسي جبيل
يأخذك الكاتب والإعلامي علي أبوالريش في رحلته التأملية الجميلة، التي نثرها في مؤلّفيه الأخيرين الكون الارتيابي من خلال (غريزة الموت) و(العقل الجبار في ذمة الدكتاتور)، إلى عوالم أخرى ربما لم تفكر فيها إلا لماماً ولم تسبر أغوارها إلا شذراً. وهذا هو قدر الكاتب دائما: أن يكون مختلفا ومعانقا بحَرْفِهِ مشاهد أبعد من أن يراها الجميع بالعين المجردة، أو أن يخوضوا غمارها كما فعل في تجربته الذاتية الممتدة منذ عقود، وهذا ما قرأناه وراء سطور الكاتب في كتابيْه.
غريزة الموتالجزء الأول الممهور بـ (غريزة الموت) مهّد له أبو الريش بشكل فلسفي من خلال تأكيده على العلم؛ حيث لا شيء يخضع للصدفة بوصفه ارتباطا وثيقا بين السبب والمسبب، معرّجا على أن تتبع المسار النفسي وفرز ميكانيزماته النفسية يوضح أن هذا التكوين النفسي شبيه بالتكوين الجسدي، إذ يقول: «إن النفس البشرية تبدأ بنفي البداية الأوائلية لتكوّن الجسد»، فالإنسان حسب الكاتب هو مجموعة من الغرائز التي تنمو بالتدرج الزمني ولا مجال لتحديد الشخص السويّ من الشخص المريض نفسياً، فالمسألة تخضع للنسبة والتناسب من خلال التشخيص الإكلينيكي، ففي حين تعد بعض الظواهر النفسية في بعض المجتمعات شاذة، نجد أنها طبيعية في مجتمعات أخرى بحسب سياقاتها وعاداتها وتقاليدها ودينها وبُناها الفكرية، ذلك أن تركيبتها الاجتماعية هي المحدد للقيم المتداولة والتي من شأنها أن تمثل المقياس والمحرار الذي يتصرف وفقه الناس في هذا الإطار، وكل شذوذ عن الرأي المتداول هو ليس بالضرورة مرضا نفسيا، كما أن الامتثال للسائد الاجتماعي لا يعني بالضرورة أن الشخص سوي.
ويخوض الكاتب الإماراتي في مجال الموت كمفهوم لم يتناوله التحليل النفسي حيث لا يتجاوز الأمر عندهم سوى غريزة كامنة في الذهنية البشرية «تمارس غيّا وسطوة وفعلا تدميريا في الذات المجبولة على حب الحياة، والجموح دوما تجاه النشوء والارتقاء وتحقيق أقصى ما يمكن من الثبات عند ناصية الخلود». ويستطرد أنه منذ اكتشاف سيجموند فرويد اللاشعور لدى الإنسان «تفجرت عناصر الجرأة والطموح اللامتناهي لدى علماء النفس في الغوص عميقا في أحشاء النفس البشرية والبحث عن ميكانيزمات القوة والضعف في الإنسان».
وكل ذلك جعل الإنسان يفكر في الموت ويصارعه بوسائله الدفاعية المختلفة، من خلال آليات متعددة، يمر بها الإنسان عبر تجاربه المتنوعة في الوجود، وهي تجارب تختلف من شخص إلى آخر بحسب الظروف المرتبطة به والآليات التي ترسم رؤيته.
ومن هنا ينتقل بك علي أبو الريش إلى الموت كغريزة تنبع أساسا من رؤية فرويد الذي يرى أن غريزتي الموت والحب ما تزالان متفارقتين، بينما تنصهران معا تدريجيا خلال النضج، حيث يعمل الحب على تحييد غريزة الموت، ويذهب الكاتب إلى أن العلم لم يكن باستطاعته أن ينتصر على الموت ككائن متوحش مفترس يجهز على الكائن، فالموت معادل موضوعي للحياة ويقف حائلاً دون تحقيق الهدف المنشود لخلود الكائن البشري، مما جعل الانسان يفكر في حلول أخرى لمقاومة طاغوته، وذلك «لإثبات أن الانسان كائن أبدي لا يسومه الموت إلا رغبة مضاعفة في إثبات الوجود وتقدير الذات»، ولأجل ذلك اعتمد على ما يمكن وصفه بالحيل الدفاعية التي اختلفت عبر تاريخ الإنسان في مختلف العصور، وهو تاريخ يختلف من زمن إلى آخر.
والكتاب هو محاولة للإجابة عن كثير من الأسئلة عن الموت، وحوله، ورحلة في غريزة طالما درست من طرف الباحثين والمؤرخين والعلماء وغيرهم، والذين أكدوا أن «السلوك الإنساني يتحدد إزاء الموت نفسيا، بما تدل عليه معتقداته وتكهناته وطرائق معالجته لقضية الموت للبقاء حيا أبديا».
وفي إطار هذه الدراسة يطرح أبو الريش عديد من الأسئلة في هذا الإطار من بينها: لماذا صنع الإنسان أسطورة خلوده؟ ما الحب؟ ما المازوشية؟ ما الأعصبة النفسية؟ كما تعرض الكتاب إلى الأديان القديمة والتوق إلى الخلود من خلال أديان العرب والمادية الجبرية والكهانة والعرافة، وكذلك الحضارات القديمة والبحث عن الذات، والنظريات التي غيرت مفهوم الإنسان عن الكون، والنظريات التاريخية التي غيرت في التاريخ ولم تغير في مجرى العالم، وإسقاطات المرأة النبيلة بحيل دفاعية مريبة، مختتما كتابه بدراسة عن التطرف بأطيافه وألوانه المختلفة، وفصل عن آيات الخلود في القرآن الكريم.
استطاع الكاتب والإعلامي الإماراتي علي أبو الريش من خلال كتابه (غريزة الموت) أن يقدم تأملات تسعى لكتابة تاريخ نفسي للكاتب ووجوده اعتمادا على رؤى شخصية، وإحالات على ثقافتنا العربية الإسلامية، كما الثقافات الإنسانية عامة، وفي هذا المؤلف سعى إلى فهم التحولات النفسية والفكرية للإنسان عبر تجربة الموت إلى مصاف الخلود، وقد نجح في تناول مختلف القضايا بأسلوب أدبي ينم عن قراءة فاحصة لمختلف الآليات المتعلقة بموضوع الدراسة، والجوانب المختلفة المرتبطة بالموضوع الذي قليلا ما تم تناوله في دراسات عدد من الباحثين، ولعل زخم تجربته الأدبية والإعلامية في المشهد الثقافي الإماراتي والخليجي هي رجع صدى لهذا الكتاب الذي تجول بنا صاحبه في الكثير من المحاور المؤرقة للذهن البشري في هذا العالم المتغير باستمرار، والذي تتداخل فيه المفاهيم والرؤى بشكل ملفت للانتباه، ومثير لكثير من الأسئلة التي ستظل عالقة في الأذهان على مر الزمان، ما بقي الإنسان في هذا الكون.
العقل الجباريطرح علي أبوالريش في الجزء الثاني من (الكون الارتيابي) «مسألة العقل الجبار في ذمة الدكتاتور»، ويتمحور حول مفهوم السلطة تعدّيا لكونها مذهبا واستلاما لموضوعها المستقر في الطبيعة المادية للوجود، مرورا بتحديد عقيدة الديكتاتور وأسباب المنح البشري لهذه المسألة من جوانبها المتعددة، متناولاً في 11 فصلا ومقدمة وخلاصة، عديد من المحاور هي على التوالي: الفضيلة رذيلة المهمش، قانون العقل الباطن، العقل الباطن والتنوير، الانتحار الأخلاقي والعقل الباطن، الخوف والعقل الباطن، القانون والعقل الباطن، الموت والإنسان بقدر ما هو سوي فهو شاذ، الإنسان – الهو والأنا الأعلى وما بينهما الأنا، والوجود البشري والإنسان الأول.
ويخلص أبو الريش إلى أنها ليست سوى نزهة في رحاب العقل الباطن، هذه المنطقة الغائرة من الذات المأهولة بعوامل ماورائية خارقة ومذهلة في قدراتها الكامنة، فهذه المنطقة تمثل الأساس في تكوين الشخصية الإنسانية، وهي المدبرة والمؤثرة تأثيرا قاسيا في تحديد معالم هذه الشخصية، ما يجعل صراعها مع العقل الواقعي صراعاً وجوديا كونيا، يؤدي في كثير من الأحيان إلى زلزلة مدمرة خسائرها المادية والمعنوية فادحة، وليس لوزنها مكيال مادي.
إننا هنا إزاء عملين مختلفين من مسيرة الكاتب علي أبو الريش، وهو يرحل بك في العقل الواقعي والعقل الباطن راسماً الخطوط العريضة لمسيرة لا تتحدد في إطار ولا نقف لها على قرار، فعوالم الإنسان متشعبة وحاجته إلى الحياة تدعوه دوما إلى البقاء بين ذاتين، و لابد من معادلة بينهما تتيح التوازن الروحي في ظل الصراع بينهما، وهو صراع أبدي بين الواقعي والباطني يلجأ فيها الإنسان إلى أحدهما كلما لم ينسجم مع كليهما.
_____
*الاتحاد