ذلك الجندي الذي يقرأ.. شهادة قارئ روايات


*سعد محمد رحيم


لطالما اعتقدت أنني أستطيع التحدّث عن تجربتي قارئاً للكتب أفضل من تحدّثي عن تجربتي في الكتابة.. لم أؤلف سوى عدد محدود من الكتب لا يتجاوز العشرين كتاباً بين مخطوطٍ ومنشور، لكنني قرأت آلاف الكتب. ولأني أؤمن بأن مغامرة القراءة خلاّقة مثلما هي مغامرة الكتابة فإن فرضيتي الآنفة الذكر تظل، كما أزعم، قابلة لإثارة الاهتمام والجدل.
في نهاية العام 1985 اُنتدبت للتدريس في مدينة العمارة بعد أن قضيت في جبهة الحرب خمس سنين. وفي عصر يوم ربيعي، بعد سنتين من ذلك التاريخ، وكنت في طريق عودتي بحافلة من العمارة إلى بغداد، أجلس في المقعد المجاور للنافذة، استأذن مني رجل عسكري ليجلس إلى جانبي.. قلت؛ “تفضل”، ومن غير أن أرفع عيني عن الكتاب الذي كنت أقرأ فيه.. كنت غائصاً في عالم رواية لهيرمان هيسه، حتى أنني لم أشعر بالحافلة وهي تغادر المرآب وتنطلق. ولمّا هبط الغروب وأصبح الضوء شحيحاً والقراءة متعذرة طويت الكتاب ورحت أنظر عبر زجاج النافذة إلى البراري الآخذة بالذوبان في العتمة.
باغتني الرجل العسكري بالسؤال؛ ألست سعداً؟ ( أنت سعد.. مو؟ ).
التفتّ إليه وقلت؛ نعم.
ورحت أدقق النظر في ملامح وجهه.. عرفته بعد لحظات.. كنا في الوحدة العسكرية ذاتها لكننا لم نكن أصدقاء مقربين.. تبادلنا بضع كلمات عن الصحة والأحوال ومصائر الأصدقاء حتى قال: 
لم أعرفك إلا لمّا فرغتَ من القراءة.. كنتُ طوال الطريق، أقول في سرّي؛ يبدو أن هذا الشاب مولعٌ بالقراءة مثل ذلك الجندي الذي أنهى نصف خدمته وهو يقرأ، وفقط حين نظرت إليك عرفتُ أنك هو.. 
كنت معروفاً في الوحدة بالجندي الذي يقرأ. 
في هذه الورقة لن أتقصى عن البذور الأولى لتولهي بالقراءة عموماً.. سأكتفي بالكلام عن تجربتي في قراءة الروايات.
أتذكر اللحظة التي سحرتني فيها كلمة رواية.. لم تكن تلك هي المرة الأولى التي تُطرب فيها سمعي، أو أقرأ في مكان ما، هذه الكلمة الملهِمة. ولكن حين نطق بها صديق لي وهو يدلّني إلى أكثر العوالم جمالاً وإثارة في الكون ألفيتني واقعاً في الفخ.. كنت يومها في الأول المتوسط مشبعاً بقراءة الروايات البوليسية وأحاول كتابة نصوص نثرية قصيرة، أو ما أسميه بالقصص.. قال لي: عليك أن تقرأ الروايات لتكتب في يوم ما رواية.. وأرشدني إلى توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس.
موسقَ كلمة ( رواية ) ولاكها في فمه وكأنه ينطق بأكثر الكلمات عذوبة وحميمية وبهاءً وقدسية في العالم.. كان إيقاع الكلمة وهي تنساب على لسانه مغوياً على قدر هائل من الإثارة وتبعث على النشوة. كان هو الآخر يحلم أن يكتب في يوم ما رواية، بيد أن صروف الحياة وقسوتها عاكسته بأكثر مما يقدر على احتماله فاستسلم تاركاً إياي وحيداً على ذلك الدرب.
إن الكتاب الذي أقرأه بعمق ومتعة وشغفٍ حارق هو كتابي أيضاً وليس كتاب المؤلف وحده. وكثيراً ما حكيت عن روايات كأنني أنا كاتبها.. تمنيت أن أكون أنا كاتبها.. لقد شاركت المؤلف مائدته الإبداعية العامرة بالأطايب وأعدت صياغة روايته في رأسي مرات ومرات، وبذا لم تعد روايته وحده.. إنها لي أيضاً.. هذا ما حدث لي في البدء مع ( ميرامار ) نجيب محفوظ، مع ( ذهب مع الريح ) لمارغريت ميتشل، مع ( أنّا كارنينا ) لتولستوي، مع ( رسائل من بيت الموتى ) لديستويفسكي، مع ( الأم ) لغوركي، مع ( القصر ) لكافكا، مع ( الصخب والعنف ) لفوكنر، وما أدراكم ما فعلت بي ( الصخب والعنف )؟. مع ( ذئب البوادي ) لهيسه، مع ( البحث عن وليد مسعود ) لجبرا إبراهيم جبرا، مع ( كانت السماء زرقاء ) لإسماعيل فهد إسماعيل. وفي وقت لاحق تغيّرت اللائحة، بهذا القدر أو ذاك، بعدما قادني الروائيون اللاتينيون إلى جزيرتهم المسحورة؛ استورياس وماركيز ويوسا وإيزابيل الليندي. ومثلهم فعل اليابانيون المذهلون؛ ميشيما وكاواباتا وأشيغورا وأخيراً موروكامي.. وماذا أقول عن لورنس وهيرتا موللر وأورهان باموق ونايبول والفريدة يلينك وغائب طعمة فرمان وفؤاد التكرلي وآسيا جبار؟ والقائمة تمتد. 
والآن؛ لا أستطيع أن أحدد بيقين تام أفضل عشر روايات قرأتها.. الرقم مئة ( وربما الرقم مئتين ) يلائمني أكثر..
مبكراً جداً شغفت بالسرد.. لم يكن شغفاً اعتيادياً، كان شعوراً أقرب إلى الإيمان. غير أنه الإيمان المستند إلى حدس طفولي نقي وساذج وبريء وواسع الأفق.. لم يكن العقل حاضراً ثمة. أو أن حضوره كان حيياً، موارباً، لا أبالياً، حيادياً إلى الحد الأقصى.. كانت أمي حكّاءة من طراز فريد.. كانت تحكي فأجدني تائهاً في ممالك الأقزام والجن والسحرة والعشاق المجانين.. كانت أمي تتقن صياغة العجائبي من غير أن تدرك أنها تمتلك هذه الموهبة الاستثنائية المبهرة. وقد كانت تقرأ العالم وما وراءه، ومعها كنتُ أقرأ الاثنين.. كانت أمي ومن غير أن تفطن تهيئني لأغدو أحد المجاذيب في فلك الرواية.
الهاجس الذي تملكني دوماً هو أن حياة واحدة لا تكفي امرءاً مثلي، ولا تجربة واحدة ولا مكان بعينه.. هذه المعضلة الوجودية وجدتُ لها مبكرا، لحسن الحظ، أو لسوء الحظ، لا أدري، الحلَّ في قراءة الروايات وكتابتها.. كل رواية مقروءة هي حياة مضافة في مكان آخر.
ذات شتاء كالح، في زنزانة ما، من زنازين الوطن الشقي، خالية من روائح الورق والحبر، حاولت أن أتخيل كتباً كي أقرأها.. قررت أن يكون كتاباً لم يؤلف بعد.. أكنت لحظتها أسعى إلى الكتابة أيضاً.. نعم، وكيف لي أن أنكر، لكنني في حقيقة الأمر كنت منهمكاً في القراءة.. وجدتني أقرأ في كتاب افتراضي، متخيل، ألفقه أمام عين سحرية استعرتها من مكان علوي مبهم أعرف وحدي أين يقع.. هناك اختلقت أغلب المشاهد التي سأستعين بها فيما بعد لتشكيل رواية كتبتها فيما بعد في النصف الأول من التسعينات ولم أنشرها.. كان ذلك تمريناً مخصباً لقدرتي، وهكذا توصلت إلى المعادلة التي خلاصتها؛ أن نقول القراءة والكتابة فإننا إنما نشير إلى فضاءين متناظرين، ففي الكتابة أنت قارئ أيضاً، تقرأ ذاتك وتقرأ العالم وتقرأ نصك، ولعلك تقرأ الثلاثة في آنٍ معاً.
الرواية التي أشرع بكتابتها أقرأها أيضاً، وقد يسبق فعلُ القراءة فعلَ الكتابة.. أنا حين أكتب أكون قارئاً لكتاب في حالة كمون أعثر عليه مصادفة، أو بمكرٍ خاص، أتصفحه بشغف لصٍ، وأسطو عليه.. حين تكتب رواية أنت لا تنطلق من العدم وإنما تختلس شذرات من العالم وتعيد تركيبها بوساطة المخيلة التي لا تحد، واللغة التي هي مبذولة، وبالموهبة التي، إن افترضنا وجودها، قد ورثتها، وبالولع الذي لا تدري لِمَ يتلبسك، وبطاقة الخلق التي لست متأكداً من مصدرها الغامض.
أحنُّ غالباً إلى فضاءات روايات قرأتها قبل سنين بعيدة.. أستعيد رائحة الحبر وملمس الورق ومشهد صورة الغلاف قبل أن أستحضر في الذهن الأمكنة والشخصيات والمشاهد الدرامية الخاصة بحيواتها.. هكذا هو الأمر مع نساء جمال قطب على أغلفة روايات نجيب محفوظ، ومع العطر الرقيق وربما الموهوم لروايات دار التقدم السوفيتية. والملمس الناعم لورق روايات سارتر وكامو وسيمون دي بوفوار بطباعة دار الآداب البيروتية. فضلاً عن العوالم المدهشة والشخصيات التي لا تنسى، والوصف الباهر والحوار الذكي وطرق السرد في تلكم الروايات كلها.. 
للقارئ ذاكرة أخرى غير ذاكرته الاعتيادية، هي ذاكرة القراءة.. الذاكرة التي تناظر الأولى وتتواصل معها من أجل ترتيب أذهاننا وانفعالاتنا وعواطفنا وأحلامنا وكوابيسنا.. ذاكرة القراءة وأكاد أقول ذاكرة الثقافة. وقد أتجرأ وأتجاوز وأعلن؛ ذاكرة الإنسان وقد بلغ درجة النضج والتحضر. 
إن لم تمتلك مخيلة فعالة لن تكون قارئاً فطناً مبدعاً.. القراءة فعل إبداعي.. القراءة فن.
أنا يا سادتي، بحسب اعتقادي عن نفسي، كائن يُحسن القراءة أكثرَ من أي شيء آخر في العالم.. أنا كائن في القراءة.. وما زلت ذلك الجندي الذي يقرأ.
• شهادة ألقيت في ملتقى الرواية الثاني في البصرة يوم 3/ 10/ 2015
_____
*المصدر: المدى

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *