الغجر.. أبناء الأسطورة


*حـنا عبـود
لم نكن نعلم قبل المحرقة الرهيبة التي أوقعها النازيون بالغجر، حيث أبيد مئات الألوف منهم، أن هناك باحثين يهتمون بالغجر، وأن هناك علماً، هو (جبسولوجيا)، خاصاً بهم. كانوا عندنا عبارة عن مشاهد عابرة لم نكن نمكث طويلاً عندها. واشتهروا أكثر بعد أن عقدوا مؤتمرهم الثالث، ودانوا الأوضاع العالمية القائمة، ورفضوا التجنيس، فهو نوع من القهر والاعتقال والتعذيب والاستهتار بالحرية البشرية، لا تقل عما فعله ويفعله العسكريون الانقلابيون من خنق الحرية وتدمير الشخصية وفرض الذاتية، واقتراف الفظائع التي لا تقل عن المحرقة النازية.

لا فرق- لو كنا نعلم يومذاك- بين المشاهد العابرة والجبسولوجيا، لو تلقينا تلك المشاهد بشيء من الانتباه والتدقيق وربطنا فيما بينها. فبقليل من التأمل كنا سنعرف أن الغجر شعب خرج من رحم الميثولوجيا ولا يزال حتى اليوم تحت مظلتها. من هذه المشاهد: الكدية والتبصير وقراءة البخت والموسيقى والغناء والرقص.. وطب الأسنان وصناعة الأدوات المنزلية والحلي التقليدية والملابس المزركشة.

كل تلك المشاهد تشكل شخصية واحدة منسجمة مع العقائد الميثولوجية القديمة. وأهم ما نريد التركيز عليه في هذه المشاهد هو التقاليد الأدبية، فأنت أمام نثر عامي قريب من الشعر، أو من النثر المسجوع في القرن الرابع الهجري. وربما اعتقدنا أن غجر بلادنا وحدهم الذين يسجعون. ولكني سمعت الأسلوب ذاته في ضاحية من ضواحي بلغراد، ليس عندما يؤدي الغجري هذه المشاهد، بل عندما يتلقاك مرحباً في باب خيمته التي فضلها على الأبنية التي قدمتها الحكومة اليوغوسلافية، فتركها للريح تلعب فيها. وهو بقامته القصيرة وسمرته الغامقة وشعره الفاحم وعينيه السوداوين واللباس المزركش لا يختلف عن الغجري في بلادنا. فالغجر واحد عندنا وعند غيرنا، ليس فيما ذكرنا بل أيضاً في أنماط المعيشة والسلوك والأخلاق وعشق الفنون… الخ. والاضطهاد وقع عليهم جميعاً.
طفولة أسطوريةللغجر دور كبير جداً في إشاعة التقاليد الأدبية في أسلوب اللغة والموسيقى والزيّ والفن، وإن كان تراثهم ينتقل شفهياً. وحتى اليوم لا تشكل الكتابة جزءاً كبيراً من هذا التراث الفني العظيم. وما دعانا إلى هذه النتيجة أنك تسمع من الغجري سجعاً منمقاً في كل المشاهد التي أشرنا إليها، فحتى الذين يعالجون أسنانك يسجعون أو يقولون جملاً متوازنة متقاربة في الإيقاع، ويكثرون من الترادف في بعض الأحيان، كما يكثرون من الجمل الدعائية والاعتراضية والمكررة باختلاف قليل… فإذا سمعنا أهل الكدية منهم وجدنا أنفسنا أمام كليشيهات أدبية صرف، يحفظونها- على ما يبدو- عن ظهر قلب. فإذا استمعت إلى قارئات الكف وضاربات الودع والبصارات… سمعت نصاً «أرقى» بكثير من نص معالج الأسنان، بأي لغة من اللغات، وبأي تسمية تطلق على الغجر (الغوازي في مصر، النَّوَر في بلاد الشام، الكاولية في العراق، أو أي تسمية أوروبية كالزط والقرباط (نسبة إلى كرواتيا) والرومني…) بل حتى في مخاطبته لابن جلدته يستخدم الجمل المنمقة. ونخلص إلى أنه شعب من الشعوب القديمة التي كانت أساس إشاعة التقاليد الأدبية. واستمراره حتى اليوم بهذه التقاليد يدل أنه لا يزال يحتفظ بطفولته الأسطورية. إن «العقل الحديث» (!) لا يستطيع أن يأتي بهذه التقاليد فهو أبعد ما يكون عن التزويق والسجع والتكرار، فحتى المتعلمون منهم يفقدون هذه الميزة، وإن بقيت آثار منها. ونظن أن السجع في العالم أجمع تأثر بتقاليد هذا الشعب الذي لا يزال في قلب الأسطورة، إلى جانب شعوب أخرى قديمة مثله.
ليس شعباً مجهولاًبعضهم يرى أن الغجر هي الموجة الوحيدة التي دفعت بها الهند إلى أوروبا، عن طريق الشرق الأوسط ومن هناك إلى أميركا وأستراليا. ويحددون بداية الهجرة في القرن الخامس الميلادي واشتدت في القرن الحادي عشر، وفي القرن الرابع عشر وصلت أوروبا، ومنها إلى إنجلترا في أيام شكسبير، الذي عندما رآهم اعتقد أن بطلة مسرحيته كليوباترا ليست سوى ملكة غجرية، لسمرتها وجمالها، مع أنها يونانية. ولكن المعتقد أن التأثير لم ينتظر القرن الخامس، بل شاع من هناك في العالم عن طريق التعامل والهجرات الأوروبية وغير الأوروبية التي كانت على صلة ببلادها. وقد ظهر اليوم هذا الشعب بكل عاداته.

وتراهم يتخذون دين المكان الذي يحلون فيه، ولكنهم أبداً تحت تأثير أساطيرهم القديمة، فمن دخل الإسلام يظن أنه لا يزال يحمل وزر الخطيئة الأولى، ويعتقد أنه ابن قابيل الذي قتل أخاه هابيل، ولا تزول هذه الخطيئة ولكن يمكن أن تنسى، بالفنون الجميلة كالرقص والموسيقى. ومثله من دخل المسيحية، يظن أن الخطيئة الأصلية جاءته لأن أجداده صنعوا ثلاثة مسامير من المسامير التي دقت في أطراف المسيح، وهي لا تزول أبداً، لكن يمكن تخفيفها بالفرح، أي الرقص والموسيقى. وهناك من يعتقد أن الخطيئة الأصلية جاءتهم من أجدادهم الذين كانوا في مصر وعزفوا عن استقبال مريم وابنها، بل ناصبوهما العداء. ومن هنا برع الغجر في الفرح والحزن معاً، فمنهم ظهرت الفرق الخاصة بالأفراح والأتراح، أو الراقصات النادبات، فكنّ يرافقن حاملات القرابين وينشدن الأغاني الحزينة الباكية على الضريح، ويضربن صدورهن ويلوحن بشعورهن، وهن أنفسهن يقمن بمستلزمات الأفراح، ولكن هذه المرة مع الغجر الذكور. وما رقصة الفلامنكو سوى فن من الفنون الكثيرة التي ابتكرها الغجر.

وفي كل الأحوال يتمسكون بإيمانهم أنهم أبناء الله المفضلون، لأن الله ميزهم من غيرهم، فهم يعتقدون أن الخالق وضعهم في تنور، مثلما توضع أرغفة الخبز، ثم انشغل في أعمال أخرى، ولما فطن وجد لونهم الأسود مختلفاً عن سواهم الذين لا لون لهم (البيض) فجعلهم «أبناءه المفضلين».

أما الكدية وما يصاحبها من أدب فورثوها من أجدادهم الكهنة، فالكاهن يطوف متسولاً وتنهال عليه العطايا بسخاء، وهم يعتقدون أنهم أخذوا منه البركة والنعمة مقابل هذا العطاء البسيط. وهو لا يحتفظ بما نال في الكدية، بل يوزع ذلك على المحتاجين.

ولادة الفنون أحبت غجرية فتى جميلاً، لكن من غير جنسها، فجفاها، فبكت واستعطفت، ولم تجد خلاصاً إلا بعقد اتفاق مع الشيطان، وهو تقديم آلة مصنوعة من أعضاء أسرتها، وبهذه الآلة يمكنها تنفيذ ما تريد، وبعد كثير من المعاناة وافقت، فجعل أباها صندوقاً خشبياً يردد الصوت وأمها قوس عزف، وأخواتها الأربعة أوتاراً، وصنع الكمان، وعلمها العزف، فجعلت النافر منها يعشقها، ومنذ ذلك الوقت تعلم الغجر الفنون كلها، السحر والطلاسم والتعاويذ ومهنة الكدية المقدسة واستخدام المزاهر وقرع الطبول والصنوج وقراءة البخت والمداواة. وليس غريباً أن يرد ذكرهم في قرار صدر عن البرلمان السكوتلندي عام 1579 «…أولئك الكسالى الذين يسمون أنفسهم مصريين، يدعون النبوءة والسحر أو العلوم الشريرة الأخرى». وساد اعتقاد في العصور الوسطى أن المجوس ليسوا سوى الغجر الذين، من قراءة الكفّ، حذروا الأسرة المقدسة مما ينتظرهم.

لا أحد يدري متى ولدت أساطير هذه التقاليد الأدبية، ولكن ممارستها مستمرة في كل أنحاء العالم تقريباً. واستمرارها اعتمد على النقل الشفهي، وليس الكتابي، فليس للغجري لغة مكتوبة. وإلى جانب لغته يتشرب لغة المنطقة التي يسكنها، وإذا تعلم القراءة والكتابة فإنما يتعلم تلك اللغة الوطنية للمنطقة التي ينزل فيها، إذا طالت إقامته، فالعادة ألا يمكث أكثر من فصل من الفصول الأربعة في المكان ذاته. وليس غريباً أن يطلقوا عليهم اسم «بدو رحّل» وبخاصة في المناطق التي لا ترغب كثيراً في إقامتهم.

من وحي التقاليدأثر الغجر بتقاليدهم المتوارثة عن أجدادهم سكان الكهوف، في كل المناطق التي سكنوها أو مروا بها. وبرز منهم موسيقيون في البلدان العربية، كما أثروا في الأدب العربي والأجنبي. ونعتقد أن أبطال المقامات من أهل الكدية غير بعيدين عن التقاليد الغجرية، وبخاصة لغة السجع الجميل والجمل القصيرة الموجزة. وفي الغرب نجد أعمالاً كاملة في الموسيقى والأدب اتبعت التقاليد الغجرية، كما في مؤلفات «فرانز ليست» ذات الموضوعات الهنغارية، وما «كارمن» جورج بيزيه سوى لوحة غجرية تبدي الإعجاب بالغجر وحياتهم الفنية، ورواية «العذراء والغجري» لـ د. هـ. لورنس تعكس صورة الغجري في فلسفته في الحياة وفنه العفوي، وهو ما جعل ابنة كاهن الرعية تهرب معه. وخصهم بوشكين برواية جميلة عنوانها «الغجر». أما لوركا فقد رافق الغجر فترة وعرف حياتهم، وتأثر بهم كثيراً. ويعكس ديوانه «أغاني الغجر» إعجابه الشديد بهم، مثل مواطنه سرفانتس في «الغجري الصغير»… ويكفي ذكر يوهان شتراوس الذي خصهم بأوبرا «الغجري» إلى جانب عازف الغيتار البلجيكي ديانغو رينهارت من أصل غجري، كنموذجين لكثيرين ممن أسسوا للموسيقى الحديثة، حتى نعرف مدى التأثير الكبير للغجر. وما أكثر الرسوم والرسامين الذين استلهموا الحياة الغجرية، أمثال أميديو مادغلياني في لوحته «الغجرية والطفل». أما الشعراء الذين استلهموا الحياة الغجرية فأكثر من أن نحصيهم.

ما نريد الوصول إليه أن الغجر أسسوا للحداثة، بالقدر الذي اعتمدوا على التراث العريق. وأثرهم باد في كل التقاليد الأدبية والفنية عند الشعوب التي حطوا رحالهم فيها. كنا نستهين بهؤلاء البسطاء، من غير أن نتعمق في تقاليدهم، بينما اليوم ظهر علم الجبسولوجيا الخاص بدراستهم من جميع النواحي، مما يستدعي إعادة النظر في موقفنا السابق والنظر إليهم بعين الجد والاحترام، فليس سهلاً أن ترى ابن خمس سنوات يعزف على البزق أصعب الألحان، وينشد، بلغته الخاصة، الأغاني الجميلة التي قد تعود إلى آلاف السنين.

بعد انهيار المعسكر الشيوعي سمحت الحكومات الجديدة للغجر بتشكيل أحزاب سياسية. ونخشى أن تكون كأحزابنا لا تحسب حساباً للآداب والفنون الجميلة، فتكون الخسارة فادحة جداً

الغجر.. أبناء الأسطورة

السحر الغجري

الكلمة التي تدل على الخالق عندهم هي: «دل» وتعني المشعّ والمتلألئ بالأنوار، ولكن شاع أنها اختصار لكلمة الشيطان «ديفل» وصاروا بدافع الكراهية يطلقون عليهم «عباد الشيطان» واستغلت النازية هذه الناحية. أما أمهم فهي الأرض التي يرفضون أي تملك خاص لها، ودفعتهم هذه العقيدة إلى معرفة عوالم الحيوان والنبات والأعشاب فبرعوا في الطب كما برعوا في التنجيم والبخت. ولم يستخدموا الأعشاب في الطب وحده، بل أيضاً في السحر، فهناك شراب للخلاص من الخصم وهناك شراب لجذب الحبيب…الخ.

ثلاثة أسماء

الغجر شعب لا يزال في قلب الأسطورة. فالأسماء التي يطلقونها على أبنائهم ثلاثة: الأول اسم تهمسه الأم في أذن الطفل وقت الولادة، ولا تنطق به ثانية ولا يعرفه أحد غيرها، ولا حتى المسمى نفسه. والثاني هو الاسم الذي يطلق عليه بين عشيرته، والاسم الثالث هو الذي ينادونه به أمام أهل المنطقة التي رحلوا إليها.
_________
*الاتحاد

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *