فوزية شويش السالم
المتاحف في لندن متجددة باستمرار، فزيارة واحدة لها لا تمنح المعرفة التامة بها، لأنها تضيف وتغير عروضها على مدار السنة، مما يمنح الزائر فرصاً متعددة لمشاهدة المعروضات الفنية التي تتبدل بحسب المواسم والاحتفاءات المختلفة، الأمر الذي يتيح لرواد تلك المتاحف مشاهدة فنون ممتعة في كل زياراتهم.
وفي زيارتي لمتحف تيت هذا العام وجدت إضافات لم أشاهدها من قبل، هذا إلى جانب الاحتفاء الكبير هناك بفن البوب الذي يشارك به فنانون ليسوا من أميركا وإنكلترا فحسب، بل كان هذا المعرض كاسراً للنمط المعتاد حيث كشف عن الروح الفنية المشتركة لفن البوب بين فناني العالم كله، من أميركا اللاتينية إلى آسيا، ومن أوروبا إلى الشرق الأوسط في 160 عملاً امتد تاريخها من 1960 إلى 1970، ولأول مرة تعرض هذه الكمية من الأعمال في إنكلترا، مما يُسلط الضوء على القصة التقليدية لفن البوب الشعبي، حيث يُظهر اختلاف الثقافات التي ساهمت في ازدياد الحراك الثقافي، وسمي العرض:
The Ey Exhibtion: TheWorld Goes Pop
هذا العرض يستكشف الارتباطات المعاصرة بين روح الفن الشعبي في شتى أنحاء العالم، ويسلط الضوء عليها، فلم يعد هذا الفن حكراً على أميركا وإنكلترا، ولم يعد مرتبطاً بأسماء بعينها مثل “آندي ورهول” و”روي لكشستنشاين”، فالمعرض يبين أن فن البوب لم يكن فقط احتفالية للعادات الغربية المرتبطة بالاستهلاك، بل استخدم كلغة دولية للنقد والاحتجاج للتغيير.
الأعمال الفنية المعروضة مختلفة في توجهاتها وخاماتها بين السهلة الواضحة البسيطة والأكثر كثافة في المعنى، والدخول إلى هذا العرض لم يكن بالمجان فريعه يعود للمشاركين به بما فيه من منتجات تسويقية أيضاً.
متحف تيت مكون من أجنحة تتوزع على عدة طوابق من مبنى المتحف الضخم الذي يعد مؤسسة خيرية تدعمها الحكومة بـ40 في المئة من مصروفاتها، والباقي يحصل من المبيعات التذكارية والمطاعم والتبرعات، والعاملون به أغلبهم متطوعون، وبلغ زواره 7 ملايين زائر.
وأكثر وقت أمضيته في المتحف كان في الجناح الذي يضم أعمالاً للفن البصري المتحرك المدمج ما بين الصورة والسينما والرسم والاختراعات الإبداعية، وأجمل ما في هذه العروض بالنسبة إلي هو أعمال “ربيكا هورن” التي عملت في ألمانيا وفرنسا والمولودة عام 1944، أعمالها مبهرة “تكهرب” الإحساس وتخترق الوجدان برعشة تهز البدن، لدرجة أن قلبي كان يدق وأنا أخترق بأحاسيسها وتجتاحني الانفعالات التي يمر بها جسدها والتي يتواصل بثها مع المشاهد لها عن طريق لعبها وتلامسها مع الأجهزة المخترعة التي تمثل إحساس ريش الطائر قبل الطيران، وكيفية تغلغل الهواء والتنفس عبر الملامسة الرقيقة الهفهافة التي تمر بخفة نسيم عابر يخطف الأنفاس ويترك المشاهد مجذوباً بسحر فني لا يقاوم.
كل أعمال ربيكا هورن مربكة لا تترك فرصة للمقاومة أو الفكاك والخلاص من تأثير إشعاع سحرها الفني، فهي تشد المشاهد إلى المشاعر القوية التي تبثها بقوة برسائلها الفنية لتنقل عبرها كل الأحاسيس التي لا يتوقف عندها الناس ولا يدركونها، تأتي أعمالها كرسول لإنارة الأحاسيس وتحريكها لإدراك أرهف الإشارات والحركات من حولنا، لذا اخترعت أجهزة فنية غريبة مثل “آلة الريش” وهي عبارة عن ثوب من الريش الأبيض تتحرك كل ريشة فيه عن طريق خيوط تلعب بها فتاتان جالستان على الأرض، وآلة أخرى اسمها “مروحة جسد بيضاء” وهي جناحان هائلان ترتديهما امرأة وتحركهما ببطء لتتحول لفراشة تنتفض تحت الضوء، وجهاز آخر اسمه “قفاز الأصابع” وهو عبارة عن قفازين ينتهيان بأصابع معدنية خفيفة طول كل أصبع متر، يمكنان من الوصول إلى الأشياء وتحسسها عن بعد، وتشبه حركتهما حركة العناكب والحشرات التي تتحسس الجدران والزوايا ببطء وحذر.
آلات وأجهزة كثيرة منها “قناع الكوكوتو”، و”قناع أقلام الرصاص” وهو عبارة عن أقلام رصاص مغروزة في قناع يمكن مرتديه من الرسم على الجدران عن طريق الوجه، ومن الأجهزة الغريبة “توصيلات الذراع” وهو جهاز يضع الجسد في حالة رابطات المومياء، ويديه في مغلفات تسند الجسد في وضعه.
أجهزة متعددة معمولة كإضافات لتضخيم الإحساس والتلقي من الكون وممن يعيش معنا من كائنات لا نشعر بها ولا ندرك تفاصيلها.
قدرة الفن والفنان المبدع وحدها قادرة على رصد أدق وأرهف التفاصيل التي لا يدركها غيره فهو رسول الأحاسيس.
——-
الجريدة