*د. رسول محمد رسول
فالتر بنيامين في «شارع ذو اتجاه واحد» و«طفولة برلينية»
في هذا العام، ستحل الذكرى الخامسة والسبعون على وفاة الكاتب الألماني فالتر بنيامين (1892 – 1940) انتحاراً، الكاتب العصي على التصنيف فيما إذا كان ناقداً أم فيلسوفاً أم مجرد مبدع يكتب النصوص على حوافي الأجناس الإبداعية والفكرية والفلسفية رغم أن أشهر الموسوعات (ويكيبيديا) تعرِّفه بأنه فليسوف وناقد ثقافي وأدبي، بل تصنِّفه بعض التيارات الفلسفية بأنه أحد أقطاب مدرسة فرانكفورت الفلسفية الألمانية، في حين ترى غيرها بأنه الناقم على حضارة التقنية الحديثة سواء كان قطباً فيها أم لا.
في هذه الدراسة، سننحى بعيداً عن كل ذلك الجدل، حيث نتوافر على أهم نصين له، وهما «شارع ذو اتجاه واحد»، الذي صدر عام 1928، و«طفولة برلينية 1900» الذي صدر عام 2015 بعد موته بنحو عشر سنوات، ففيهما تنجلي جماليات تسريد المكان بين الواقعي والمتخيل، لا سيما أنهما معاً، وفي عنوانيهما، ينبري المكان واضح الحضور، بل إن حياة بنيامين نفسها دالة جمالية على جذوة المكان التي تحكمت به، فهو ابن التشرد والتسكع والضياع والترحُّل والملاحقة النازية حتى إن انتحاره جرى على تخوم الأمكنة وحوافي المدن، جرى في (بورت بو) على الحدود الإسبانية الفرنسية، وهي حواف عذراء كونها أقنعة للعبور..
المدينة ككتاب
في كتابه «شارع ذو اتجاه واحد» تبدو دلالة انهمام بنيامين بجذوة الأمكنة والاحتفاء بها بوصفها قدرة حسية ضاغطة على شعوره ووعيه وتفكيره، بل ونمط حياته، خصوصاً أن العناوين الفرعية لمحتويات الكتاب تدعم ذلك، ففيها نجد الملفوظات الآتية: شارع ذو اتجاه واحد، محطة بنزين، غرفة إفطار، قبو، ردهة، قاعة طعام، شقة مفروشة، السفارة المكسيكية، البنيات، موقع عمل، وزارة الداخلية، الدرج، معمار داخلي، شرفة زهور، عيادة شاملة، مساحات للإيجار، مطعم خدمة ذاتية، متجر طوابع، البار.
مع فالتر بنيامين تبدو قيمة المكان جمالية أدبية أكثر منها مجرد وصف لحالة حسية بصرية واقعية ولا حتى واقعية سحرية. ومن هنا نلاحظ ثمة توظيفات للمكان كوسيط للعبور إلى عوالم أخرى متخيَّلة، فما يهم بنيامين هو تحقيق علاقة متوترة بين الواقع والمتخيل الجمالي، ذلك أن «الفاعلية الأدبية، وكي تكون ملحوظة، لا يمكن أن تولد إلاّ من تبادل صارم بين الفعل والكتابة» (شارع..، ص 11). هذا ما قاله في شذرته الكتابية الأولى (محطة بنزين) التي تناول فيها طبيعة الأفكار مقارنة بطبيعة الحياة الواقعية، فالأفكار «بالنسبة لجهاز الحياة الاجتماعية العملاق بمثابة الزيت للماكينات» (ص 11). وفي شذرته (غرفة إفطار) يرى أن «منْ ينفر من الاتصال بالنهار، لا يرغب في الطعام ولا يزدري الإفطار» (ص 12). وفي الشذرة (قبو) يتساءل: «أية خزانة مرعبة من الغرائب تثوي في الأسفل، هناك حيث أعمق الحفر متخصصة لأشد الأشياء اعتيادية» (ص 13). بينما في شذرته (ردهة) نراه يزور منزل غوته على نحو حُلمي متخيَّل حتى يكتشف أن اسمه يظهر في سجل التشريفات الخاص بذلك المنزل الأيقونة، فاسمه يظهر «بخطٍّ طفولي ذي حروف كبيرة» (ص 14) وكأنه خطّه بنيامين الصغير بقلمه. في «شارع ذو اتجاه واحدة» نلاقي فلسفة بنيامين في الكتابة، في تسطير أفكاره على ورقة، في النسخ، في رؤيته الخاصَّة عن الكاتب والناقد، عن حيثيات الكتابة لدى المبدع، عن يوميات الكتابة العملية، عن طقوسها وشكلها وطرقها، ومن ذلك ما كتبه في شذرته (عيادة شاملة) حيث العنوان المنزاح عن دلالته المعتادة عن (العيادة) إلى دلالة الكتابة في (مقهى) كان قد وطأه الكاتب المتخيل في هذا النَّص بكل أدوات الكتابة، القلم، القرطاس، المخطوط، التأمُّل، التفكير، المفردات، الألفاظ، علامات الترقيم والتقطيع، إلى غير ذلك من متطلّبات طقوس الكتابة ما يوحي بأن المقهى في تلك اللحظة لا تعدو أن تكون مقهى الكتابة والكاتب. وفي شذرته (إرسال وتغليف الطرود) بنظر إلى المدينة بوصفها كتاباً «عبرت مارسيليا باكراً في الصباح للذهاب إلى المحطة، أصبحت المدينة كتاباً بين يدي ألقي عليه بضع نظرات قبل أن يختفي عن بصري في حقيبة» (ص 76).
تبدو المدينة إذن كتاباً لدى بنيامين، يبدو المكان كتاباً، بل كتابٌ ظل فالتر طوال حياته حتى موته انتحاراً يسطِّر خوفه وسطوره وفصوله في كتاب «طفولة برلينية» حيث الحنين إلى الأمكنة الأولى التي عاش فيها، وهو الكتاب الذي ضم أكثر من أربعين شذرة كتابية بعضها كان قد نشره في كتابه «شارع ذو اتجاه واحد»، إلاّ أن تجربة المكان في الكتاب الثاني ذات منحى منهجي أكثر، فهو يتقصَّد العودة إلى ماضيه، لكنها العودة المميزة، ففي عام 1932، يقول فالتر: «عندما كنتُ في الخارج، بدأ يتضح لي أنني سيتحتم عليَّ في القريب العاجل أن أودع المدينة التي ولدت فيها لفترة طويلة أو ربما على الدوام» (ص 13). ولذلك يؤكِّد أنه بذل «قصارى جهده لجعل الصور التي تعكس خبرة المدينة الكبيرة برلين في نفس طفل من الطبقة البرجوازية في متناول اليد» (ص 13).
طفولة برجوازية
إلى مهد الطفولة في برلين حيث الولادة، إلى حضن الأم، وكلاهما مكان، يعود فالتر في سرديته الشذرية (شرفات)، إلى ستائر النوافذ، وصوت ترام المدينة الذي يقض مضجعه، إلى خرير الماء ورائحة الحليب ونفض السجاجيد، من تلك الأفنية يبدأ تسريد حالته كطفل حيث قطع الغسيل بل حبله، والشجرة العملاقة المغروسة في ذلك الفناء بحوضه المائي ومواقف العربات التي لم تكن تهدأ لحظة في رحلة تلقى فيه فالتر الصغير معطيات المكان النابض حيوية بألوان الجدران والساعات الحائطية وغير ذلك من الأشياء ذات الدلالة بالنسبة لطفل صغير أحب الشرفات كونها «السلوى الكامنة في عدم إمكان سكناها» (طفولة برلينية: ص 17). كانت الشرفات بالنسبة له مثابة «ضريح أعد له خصيصاً من زمن بعيد» (ص 17).
لا تبدو «طفولة برلينية» مجرد سيرة مثقف تقليدية يجتر عبرها ذكريات الأمس، بل هي نص أدبي يحفر في ذاكرة العلاقة بين المكان والزمان الذي يوحدهما بنيامين في جمالية سردية تنزاح فيها الأفكار والتصورات، بل ينزاح فيه الماضي المسرود صوب شعرية القول، وشعرية الفعل، وشعرية الإدراك الحسي والفهم والذائقة الجمالي، حيث يدخل بنيامين الطفل البرجوازي المدلل في علاقة تواصل ذاتي بعد الحسي في الأشياء من حوله عبر رحلة من الاستبدالات المجازية الشفافة التي تسعى إلى تشفير الأمكنة بحسب قراءة الذات لها، وهو ما ينجلي في شذريات سردية أقصوصية سير – ذاتية مثل نص (الهاتف)، حيث «الصوت هو المولود الجديد الذي كان غافياً داخل أجهزة الهاتف» (ص 23). وكذلك نص (صيد الفراشات)، حيث تعود الذاكرة إلى كتب تبدو الآن قديمة تضم بين دفتيها فراشات محنطة كان الفتر بنيامين يجمعها في طفولته. وإلى علاقته بمتنزه تيرغارتن، حيث «لا بد لأسماء الشوارع أن تتحدث إلى التائه مثل قرقعة أغصان جافة وأن تعكس له الشوارع الصغيرة في قلب المدينة أوقات اليوم بوضوح مثلما يعكسها واد جبلي» (ص 27).
بابل وبغداد
في شذرته السردية عن (كتب الصبيان) يدخل بنيامين في علاقة سيميائية مع الكتب التي قرأها طفلاً فيقول: «كنت أحصل من مكتبة المدرسة على أكثر الكتب المحببة إليَّ» (ص 32) عبر توزيع المدرِّس لتلك الكتب داخل الصف التعليمي، والتي تصل إليه عبر تلاميذ معه في أثناء الدرس حيث «تظل الأصابع التي تناقلته ملتصقة بأوراقه» (ص 32). ويكشف بنيامين عن طريقته في قراءة تلك الكتب: «في أثناء القراءة كنت أسد أذني، ألم يحدث، في يوم من الأيام، أن استمعت لحكاية بلا صوت؟» (ص 32). ويربط نمط القراءة ذاك بالعاصفة الثلجية التي كان هولها يجري: «كانت العاصفة الثلجية تحكي لي بلا صوت» (ص 32)، حيث الغرقة مغلقة النوافذ بينما كان بصره يمتد إليها عبر النافذة بين لحظة وأخرى في وقت كان «الجو عاصفا داخل الكتب» (ص 33) التي يقرأها. وبمنحى سيميائي يربط بنيامين بين ندف الثلج التي تجري حركتها صامتة خارج غرفته ومدن متخيَّلة، ومنها بغداد وبابل وعكا: «البلدان البعيدة التي رأيتها في هذه القصص تعبث بثقة مع بعضها البعض مثلما تفعل الندف، ولأن البعاد عند هطول الثلج لا يقود إلى العالم الخارجي، بل إلى الداخل، كانت المسافة على هذا النحو بين بابل وبغداد، وبين عكا وألاسكا، وبين تومورسو وترانسفال في داخلي أنا» (ص 32 – 33).
كعادة أغلب الذين يكتبون طفولتهم سرداً، يربط بنيامين بين حالات مرضه بالحمى في بعض السنين وحكايات والدته، فقد «كان الألم سداً حاجزاً يقاوم الحكاية في البداية فقط، لكن لاحقاً، وعندما تتكاثف الحكاية، تتغلَّب عليه وتدفعه إلى هاوية النسيان. كانت المداعبات اللطيفات تمهِّد لهذا التيار حوضه. كنتُ أحب ذلك لأنه من يدي أمي كانت تنهمر حكايات، سأسمعها منها لاحقاً، ومع هذه الحكايات ظهر إلى النور القليل مما عرفته عن أسلافي» (ص 45).
خزانة الكتب
في (طفولة برلينية) تظل مكانية بل أنطولوجية المكتبة ذات شأن، فكل شيء في منزل الأهل يكاد يكون محكم الإغلاق إلاّ المكتبة، وهذا ما نجده مسروداً في النَّص الشذري الذي حمل عنوان (خزانات) والذي يتحدَّث فيه بنيامين، وهو الطفل اليافع، عن اللحظات التي يغيب فيها أهله عن البيت حتى ينصرف إلى خزانة الكتب تلك: «كنتُ أفتح درفتي الخزانة وأتحسَّس المجلد الذي كنتُ أبحث عنه، لا في صفوف الكتب، بل في المنطقة المظلمة خلفها، وأفتحه بحماس على الصفحة التي كنتُ عندها، وبدون أن أتحرك من مكاني، أبدأ أقلِّب صفحات الكتاب أمام الخزانة المفتوحة بسرعة، مستغلاً الوقت حتى مجيء والديَّ، ما كنتُ أفهم شيئاً مما أقرأ»!! (ص 93).
في شذرته السردية (صندوق القراءة) يكتب بنيامين قائلاً: «لأن القراءة والكتابة هما الشيئان اللذان كانا يخصانني، فليس ثمَّ شيء مما سكن داخلي في سنواتي الأولى يثير فيَّ حنيناً أكبر من صندوق القراءة. كان يضمُّ في داخله الحروف على هيئة أقراص صغيرة بخط الكتابة المائل، الذي بدا أكثر صِباً ورقة من الخط المطبوع، وقد رقدت الحروف برشاقة في موضعها المائل داخل الصندوق، كل واحد منها كان مكتملاً بذاته، وكانت مترابطة في ترتيب وفقاً لقواعد طائفتها التي تنتمي لها انتماء الراهبات لطائفة ما.. هكذا كان تعامل يديَّ مع الحروف مفعماً بنكران الذات. الحنين الذي يوقظه صندوق القراءة فيَّ كيف أنه كان متوحداً لدرجة كبيرة مع طفولتي، ما كنتُ أبحث عنه فيه كان في الحقيقة هو الطفولة كلها» (ص 100 – 101).
في خواتيم (طفولة برلينية) تبدو الحاجة إلى تسريد القراءة والكتاب في أمكنتهما، وفي ظل حالة نكران الذات الباكر، حالة استثنائية لدى بنيانين، فكم كانت، وكما ورد ذلك في سرديته الأقصوصية (مكتبة التلامذة)، «نسائم المطالعة التي تهب من الكتب المعارة في الاستراحة جنونية ولطيفة، إنه هواء روايات المغامرات، أما الهواء الأكثر عطناً فكان مجلدات من ماضي الوطن التي تجمعت لدينا بكثرة في الصف الخامس» (ص 103).
رفِّ الكتب
في سنوات الطفولة، كان فالتر بنيامين قد تعرض إلى وهن في عينيه، ولذلك لجأ والده إلى تخصيص مكتب له فيه كل متطلبات القارئ الكبير. كان «رفِّ الكتب درة المكتب». وفي مقام ذلك المكتب أيضاً قرأ فالتر الصغير «الدائن والمدين» لغوستاف فرايتاغ، و»قصة مدينتين» لشارلز ديكنز، وغير ذلك من عيون القصص والروايات, وكان مكتبه ذاك الأكثر عزلة في البيت، وكان يشعر «بجو احتفالي مثل شخص يضع قدمه على أرض جديدة، وبالفعل كانت أرضاً جديدة تلك التي تزحزحت فيها القرم والقاهرة، وبابل وبغداد، وألاسكا وطشقند، ودلفي وديترويت، لتصبح قريبة جداً من بعضها بعضاً مثل ميداليات علب السيجار الذهبية التي كنتُ أجمعها».
ترجمات بالعربية
صدرت ترجمات عدة لكتب فالتر بنيامين بالعربية، خلال السنوات الماضية، منها: «شارع ذو اتجاه واحد» نشرته دار أزمنة في عمّان عام 2000 بترجمة أحمد حسّان، ونشر مشروع (كلمة) في أبوظبي نص «طفولة برلينية» عام 2014 بترجمة أحمد فاروق. وله أيضاً «العمل الفنيّ في عصر استنساخه التقني»، و»مهمة المترجم»، و»باريس عاصمة القرن التاسع عشر»، و»صورة بروست»، و»حول مفهوم التاريخ»، وكتابات أخرى غير منشورة حتى الآن.
________
*المصدر: الاتحاد