شوقي بزيع
ليس النزوع إلى الاستبداد ظاهرة خاصة بمنطقة من العالم أو شعب من الشعوب أو عرق من الأعراق بل هو جزء من الطبيعة البشرية التي تسعى إلى الاستئثار والهيمنة وإخضاع الآخر وصولاً إلى إلغائه الجسدي منذ التأسيسية وحتى يومنا هذا.
وقد اعتبر أرسطو أن «الطبيعة ذاتها تعد من أجل حفظ النوع، رجالاً ليحكموا ورجالاً ليطيعوا. وأنها هي التي جعلت من حق العقلاء والحكماء أن يكونوا سادة، وأن يكون القادرون جسمانياً على تنفيذ ما يصدر من أوامر عبيداً». ومع ذلك فلم تكن الأمور دائماً على هذا الحال، إذ لم يكن العقل والحكمة رديفين دائمين للسلطة بل إن القوة «الغاشمة» كانت تتدخل مراراً لتحسم الأمور لمصلحتها وتتحكم بالعقلاء والنخب المثقفة.
وفي الحروب التي يخوضها المستبدون لتكريس سلطتهم يتم قلب الهرم الاجتماعي على رأسه بحيث تتعرض النخب للتهميش والتنكيل بينما تتقدم الدهماء لتحتل صدارة المشهد وتعمل على اخضاع كل صوت رافض أو فكر اعتراضي.
على أن للاستبداد شروطاً لا تقتصر على الانحراف المرضي للحاكم الذي تأخذه نشوة السلطة والاستحواذ، بل هو يحتاج في الوقت ذاته إلى تواطؤ الضحايا الذين يصل بهم النزوع المازوشي في لحظة من الغيبوبة والعماء الجمعي إلى حد عبادة الجلاد وتسليمه مقاليد الحياة والموت. الاستبداد بهذا المعنى نوع من «الصناعة» المشتركة التي لا تكتمل الا بتضافر الحاكم والمحكوم. فأفلاطون في «الجمهورية» يتحدث عن الشخصية المحببة للحاكم الذي يرفعه الناس إلى السلطة على سدة قلوبهم وآمالهم قبل أن تسكره في ما بعد فكرة الأنا المتضخمة التي لا تقبل بأقل من الخلود أفقاً لطموحها.
وحين يبدأ المستبدون بالاحتجاب والتواري خلف قصورهم الباذخة والمحصنة فهم يقلدون صورة الخالق الممتنع عن الظهور، لكي يثيروا في «الرعية» مشاعر الرهبة والفضول والأيقنة الجسدية. وهو ما يعبر عنه ميشيل فوكو بقوله «إن الطاغية يستمد قوته من كوننا لا نعرف المادة التي صنع منها». وفيما يتوارى المستبد بشخصه تحضر ظلاله وتمظهراته وامتداداته في الأرض على شكل قوانين وأنظمة صارمة تتولى تنفيذها أجهزة قمعية وجلاوزة وعسس يحصون على الناس أنفاسهم.
حلقات
للاستبداد من جهة أخرى حلقات عدة تبدأ من الأسرة وتمر بالقبيلة والعشيرة وصولاً إلى الأوطان والأمبراطوريات الكبرى. فالأب في النظام الأسري الذكوري استطاع بقوة العضل وسطوة الرمز ان يتبوأ في العائلة منصب القائد والمهيمن والمتحكم بالمصائر. ولم يكن المصطلح اللغوي «رب البيت» سوى التعبير الفاقع عن المعادل الأرضي لربوبية السماء. وهو بتحوله إلى طوطم يكتسب أبعاداً سحرية وطقوسية ذات صلة بالعبادة والتقديس على مستويي العائلة، بما هي خلية صغرى، وعلى مستوى القبيلة والعشيرة في النطاق الأوسع. وفي الدائرة الأكثر اتساعاً يحاول الحاكم أن يلبس لبوس الأب أو «المستبد العادل» مماهياً بين وجوده الفردي ووجود الوطن أو الأمة ومعتبراً الشعب عشيرته وأبناءه المنوطين بواجب الخضوع والطاعة.
وقد يكون الاستبداد الشرقي بوجه خاص ذا صلة بنشوء الأديان التوحيدية التي كانت تريد أن تحل عبادة الله الواحد بدلاً من عبادة الآلهة المتعددة. ورغم ان ديانات التوحيد كانت تهدف في الأصل إلى نزع صفة الألوهية عن أي أحد سوى الله، وإلى حصر المقدس بالخالق وحده لا بالمال والجاه والسلطة الدنيوية، فإن ما حدث لاحقاً هو ادعاء الوكالة عن الله في إدارة شؤون خلقه، وصولاً إلى مقاسمته بعض صفاته المتعلقة بالخلود والحق الإلهي بملكية الأرض ومن عليها. وقد استغل البعض الآية الكريمة «ولو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا» لتبرير وحدانية السلطة الأرضية. وبعد الحكم الراشدي لم تجد الدولة الأموية مناصاً من إسباغ صفة الحق الإلهي على نفسها، الأمر الذي يعكسه قول زياد بن أبيه مخاطباً أهل الكوفة «نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا» أو قول الأخطل في مديح عبد الملك بن مروان «خليفة الله يستسقى به المطر». على أن إلباس السياسي لبوس الديني وإن كان ظاهرة مشرقية في الأصل، لم يقتصر على الشرق الإسلامي وحده بل انه تجسد في الغرب المسيحي في صورة أكثر فظاظة حيث بلغت الكنيسة من العتو، بعد ذلك بقرون، الحد الذي تحول معه البابا أنوسنت الثالث إلى طاغية حقيقي يخلع وينصب من يشاء من الملوك والأمراء الأوروبيين، وصولاً إلى تحويل الجنة إلى عقارات قابلة للبيع والشراء، وإلى محاكم التفتيش التي راحت تقتل الآلاف على الشبهات. ولم يكن لويس الرابع عشر في ادعائه للحق الإلهي في السلطة سوى تعبير بالغ الدلالة عن استعادة ملوك أوروبا لزمام المبادرة في صراعهم على النفوذ مع الكنيسة وباباواتها. لكن انقلاب الموازين لمصلحة الدولة الحديثة التي تحكمها القوانين والأنظمة الوضعية في أوروبا لم يكن بالأمر السهل. فرغم قيام الثورة الفرنسية التي سبقتها الأفكار التنويرية الرائدة لمفكرين وفلاسفة كبار من أمثال ديكارت وديدرو وروسو وغيرهم كان الاستبداد يعلن عن نفسه في غير مكان وزمان ويتخذ أشكالاً قومية وايديولوجية وصلت إلى ذراها الأخيرة مع طغاة دمويين من أمثال هتلر وموسوليني وستالين وأحزابهم. ومع ذلك فإن مبدأ الفصل بين الدين والدولة كان الركيزة الأساس للكيانات الغربية الحديثة التي لم يكن لها ان تصنع نهضتها الفعلية خارج مبدأين أساسيين آخرين هما: العقل والحرية.
الماضي
وإذا لم تكن الدولة الغربية الحديثة قد حققت اليوتوبيا الأرضية التي يحلم بها البشر، ولم تكن خالية من العاهات الكثيرة التي تعتورها فإن الشرق بالمقابل، وبخاصة الشرق العربي، كان في ظل المماهاة الكاملة بين الأرضي والسماوي، بين الدنيوي والديني يحول قادته وزعماءه إلى أنصاف آلهة، وأحياناً إلى آلهة كاملين. وفي ظل تعطيل العقل وتفريغ الدين من طاقاته الإيجابية الخلاقة بات الزمن العربي، بحسب محمد عابد الجابري، «مادة لا تعدها الحركة بل يعدها السكون». وهي نظرة، تظل، على سلبيتها، أقل تشاؤماً من نظرة أدونيس الذي اعتبر أن هذا الزمن مقيم برمته في الماضي وأن لا حركة ممكنة للتنوير ما دام النور الأكمل عند العرب والمسلمين لا يأتي من الحاضر أو المستقبل بل من الماضي السحيق الذي كلما ابتعدنا عنه افترستنا وحوش الظلام. وقبل أدونيس والجابري بأكثر من قرن كامل كان مفكر طليعي من طراز عبد الرحمن الكواكبي يضع في كتابه الشهير «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» اصبعه في قلب الجرح المشرقي حين اعتبر ان الشرقيين كأفراد قد يكونون أكثر كفاءة من الغربيين. أما على مستوى العلاقة بالحاكم فإن الغربيين يستحلفون أميرهم على التزام القانون والصدق في خدمته لهم مقابل ما «يرتزقه من فضلاتهم»، في حين أن السلطان الشرقي يستحلف رعيته على الانقياد والطاعة مقابل ما يجري عليهم من الصدقات. ثم يقول في مكان آخر: «ما من مستبد سياسي إلا ويتخذ له صفة قدسية يشارك بها الله، أو تعطيه مقاماً ذا علاقة مع الله». إن تحليلات وتوصيفات كهذه تبدو شديدة الاتصال بالحاضر العربي، كما لو انها لم يجر عليها الزمن. وهو لا يجري بالطبع على حكام إلهيين لا يقبلون بأقل من فكرة أن يحيوا إلى الأبد. انهم في نظر أنفسهم وكلاء الله والحاكمون بأمره وباسمه. لكن السحر سينقلب على الساحر ولو بعد حين. إذ من أحشاء هؤلاء سيخرج الوحش الأشد فتكاً الذي يتخذ لنفسه أسماء عديدة، من بينها داعش والنصرة. وفوق جبال من الجماجم وأنهار من الدم المراق سيعلن نفسه إلهاً بالأصالة لا بالوكالة!
————-
السفير