تحرير: ميكائيل فسيل MICHAEL FOESSEL/ ترجمة: عبد الرحيم نور الدين
خاص ( ثقافات )
عدد أوجه نيتشه هو تقريباً نفس عدد قرائه، فهو مرة محافظ، ومرة فوضوي، ومرة أخرى رومانسي أو ثوري، وظف لخدمة كل قضايا القرن العشرين. ووظف أحياناً لخدمة ما هو أفدح، كما حدث عندما سخِّر نيتشه على الرغم من أنفه ككفيل للنظام النازي وتأليهه الإجرامي لـ”الوحش الأشقر”، أمر لا مفر منه بالنسبة لفيلسوف ادعى الكتابة لـ”قارئ لم يوجد بعد”. أسلوبه النبوي يعطي كل واحد انطباع إمكان التعرف على ذاته في فكر يجد متعة ماكرة في التحول إلى ما يستحيل الإمساك به.
بإصداره “نيتشه، محنة الحاضر”، يبرز دوريان آسطور Dorian Astor كيف تضيء الفلسفة الألمانية زماننا بطريقة مدهشة، عوض اقتراح تأويل آخر. القارئ الذي يستهدفه نيتشه، قد يكون نحن، “ذوات العقل ومواطني الديمقراطيات الليبرالية” المقيمين بكل رفاهية في حداثة توقفنا عن مساءلتها. نيتشه لم يعرف هذه الرفاهية: لقد صفعته الحداثة بقوة في قلب القرن العشرين. ليس “موت الإله” بالنسبة له مجرد شعار يلوح به أثناء المرور، بل هو تجربة حقيقية تحول الحياة البشرية في العمق.
نيتشه، وهذا مفهوم، لم يكن يحب الحداثة: لا ميلها المفرط إلى العلم والديموقراطية، ولا نزوعها إلى ممارسة تسوية الرغبات والتملق للغرائز الجمعية. نمط الإنسان الذي تنتجه لم يكن ليغر غرائز نيتشه الأرستقراطية. لكن هذا الكتاب يذكرنا بأن رفض نيتشه للحاضر لم يكن يتم باسم ماض مثالي، بل باسم مستقبل لا نتوفر بعد على فكرته بدقة. المناداة على الإنسان المتفوق (السوبرمان) هي دعوة إلى تجاوز الرداءة التي تحملها البشرية دائماً ولم تخترعها الأزمنة الحديثة.
إن ما يكون القطيعة الحديثة بالأحرى هي القوى الجديدة التي اكتسبها الإنسان، والتي تجعله أكثر خطورة من ذي قبل. العلم، التقنية والتجارة هي قوى مدهشة. سؤال نيتشه يكمن في معرفة الإرادة التي ستستحوذ على هذه القوى. يمكن وضعها في خدمة بقائنا البسيط. صورة “الإنسان الأخير” الذي يبحث فقط عن توازن (السوق) ونظام (الدولة)، ما هو، بالنسبة لنيتشه، إلا تعريف لليبرالية. يقوم دوريان آسطور بإخراج حوار خيالي بين نيتشه وبين خطاب لأوباما، يقدم فيه هذا الأخير بأحسن النوايا الحرب كوسيلة للحصول على أمن نهائي. هنا يكمن الوهم الليبرالي للحداثة: القيام بحروب “وقائية” أي حروب تكنولوجية لا أحد يتحمل مسؤولية عنفها.
إن ما يكون المحنة الحديثة هو إغراء الاستسلام للقوى التي فجرها البشر لا غيرهم. باسم “الاستقلالية” يتم الإذعان لقوانين الاقتصاد؛ باسم “التقدم” يتم تبرير كل أصناف التخلي. خلافاً لماركس، لا يجرم نيتشه الإيديولوجيات، بل يجرم “طرق الشعور” التي تسجل الأحكام المسبقة العقلانية فوق أجسادنا. بإرادتهم لنفس الشيء (المساواة، الأمان، السعادة) يحلم بشر الحداثة بجسم لن يخيفه أي شيء. يستغرب المرء من كون الكارثية صارت اليوم فرضية علمية. على أن نيتشه سبق له أن تنبأ بالخوف من الفقدان الذي يحرك العقل الحديث: إنه يخترع الأسوأ للإبقاء على الحال الموجود.
ما الذي ينبغي صنعه بهذه القوى الجديدة إذن؟ إن “أخلاق الأسياد” التي يلجأ إليها نيتشه، في تعارضها مع “أخلاق العبيد”، مصطبغة إلى حد بعيد بالنزعة البيولوجية، مما يتطلب أخذ الحيطة حين الإحالة عليها. علاوة على ذلك، فالحلف بين الحداثة والتعادلية، الذي يفضحه نيتشه، لا يصمد أمام تحليل الزمن الراهن. سيفضل المرء مسايرة دوريان آسطور في ذكره لـ”ميكروسياسة للأبدية”. عوض إعلان مبادئ ديمقراطية (“القيم” الشهيرة)، ينبغي التركيز على “فتوحات محلية لاستقلالات”.
بينما تقوم التقنية والسوق بإخضاع اليومي إلى التكرار، ينبغي التخلي عن ميلنا إلى ما يقبل التنبؤ والحساب، والمخاطرة بالاتجاه نحو غير المسبوق. قد لا يكون هذا هو المساء الكبير، لكنه على الأقل ومن اللحظة الفجر.
المصدر: مجلة لوبس L’Obs عدد 2627 -12 مارس 2015 –صفحة 92