*أمير العمري
يخرج المرء، بعد مشاهدة المعالجة السينمائية الجديدة لرواية توماس هاردي الشهيرة «بعيداً عن الزّحام الصاخب، FAR FROM THE MADDING CROWD» بأكثر من سؤال: أولاً، ما الذي يدفع المخرج الدنماركي توماس فتنبرغ للتصدي لإخراج فيلم من هذا النوع، وهو الذي عرف عندما أسس حركة «دوغما 95» مع زميله المشاغب «لارس فون تريير» في منتصف التسعينيات، بتطرُّفه في الدعوة إلى شطب السينما التقليدية القديمة، سينما الحبكة، والمناظر الكلاسيكية، والكاميرا التي تتحرك بحسابات دقيقة، والموسيقى التي تأتي من مصادر غير مرئية من خارج الصورة؟ فالفيلم الجديد – يعتمد على رواية تعود للقرن التاسع عشر، تتوافر فيه- سينمائياً- كل العناصر التي سبق له رفضها.
ثانياً، ما الذي يمكن أن يضيفه (سينمائياً)، سواء كمعالجة، أو كأسلوب إخراج- مخرج مثل فتنبرغ، إلى رواية توماس هاردي بعد التناول السينمائي المميز للرواية نفسها في الفيلم الذي أخرجه، عام 1967، البريطاني الراحل جون شليزنغر؟ فما مبرر إخراج فيلم جديد عن العمل الأدبي نفسه، ما لم يكن يملك جديداً يقدمه، خاصة أن الفيلم القديم من (الستينيات) أصبح راسخاً في وجدان عشّاق السينما الرفيعة في العالم، وما لم يتمكّن فتنبرغ من تجاوزه، ولو بتناول الموضوع من زاوية جديدة تماماً، يصبح تقديمه لجمهور القرن الحادي والعشرين، نوعاً من تحصيل الحاصل.
تدور رواية توماس هاردي في الريف الإنجليزي، في أواخر ستينيات القرن التاسع عشر، أي في العصر الفيكتوري المعروف بقيمه المتزمتة، وأخلاقياته المتشددة، وكانت المرأة خلاله محرومة من ممارسة حرية الاختيار. ورغم خروجها للعمل مواكبة للثورة الصناعية، إلا أن وظيفتها الأساسية ظل ينظر إليها على أنها يجب أن تنحصر في رعاية زوجها، وانجاب الأطفال وتربيتهم، وكانت الطبقة الوسطى عموماً ترى أن على المرأة أن تخضع تماماً لزوجها، ومن الناحية القانونية كان كل ما تملكه من عقارات أو مزارع وخلاف ذلك، تذوب في ممتلكات زوجها بعد زواجها مباشرة. وكانت التمايز الطبقي في إنجلترا الفيكتورية، واضح ومحدد ولا يسمح بتجاوزه.
أنموذج المرأة
في هذه الأجواء يقدّم توماس هاردي، في روايته «بعيداً عن الزحام المجنون»، شخصية مختلفة للمرأة، تلك التي تريد أن تمتلك زمام أمرها بيدها، وترفض قبول الزواج ممن يتقدّمون إليها، وتصرّ على القول إنها ليست في حاجة إلى زوج، وأنها ستكون أقوى من الرجال، وأن أحداً لن يستطيع «ترويضها». وهذه هي شخصية بطلة الفيلم «بارشيبا إيفردين»، الشابة الحسناء التي انتقلت من مجرد عاملة زراعية، تحلب الأبقار، وتقيم مع خالتها، إلى صاحبة مزرعة ورثتها عن عمها، وانتقلت للعيش في الضيعة هناك، مُصِرّة على أن تعمل وتجتهد وتدير أمور المزرعة والعاملين فيها بنفسها. بارشيبا (واسمها مستمَدّ من العهد القديم ومعناه «ابنة القسم») كانت قد رفضت، في البداية، عرضاً للزواج، تقدَّم به جارها «غابريل» صاحب المزرعة، الذي سرعان ما سيدير له القدر ظهره، ليفقد المزرعة ثم يعمل لديها، ويساعدها في إدارة مزرعتها. وستثبت لها الأيام أن «غابريل» خير من يفهم في رعاية الماشية وحماية المحاصيل من التلف.
بارشيبا التي تحولت من فتاة فقيرة إلى ثريّة، صاحبة مزرعة وضيعة، تتميز بجمالها وسحرها، مما يجعلها تجذب الرجال، تعابث جارها الثري الذي يمتلك مزرعة تفوق مزرعتها، وتغويه برسالة عابثة تبعثها إليه في عيد الحب «فالانتين»، فيصبح، وهو الذي تجاوز منتصف العمر، مثل أي فتى مراهق، يتعذب في غرامه بها، ويذهب مرتبكاً، يعرض عليها الزواج، لكنها تتحفّظ كثيراً، ثم ترفض، إلا أنه لا يقطع الأمل. هذه المرأة القوية المستقلّة التي تصرّ على أنها ليست في حاجة إلى الرجال، سرعان ما تقع في غرام آخر «فرانسيس توري»، وهو ضابط شاب عابث، مقامر، مستهتر، كان على علاقة بفتاة تدعى «فيونا»، كانت تعمل في مزرعة بارشيبا، ثم هجرتها أملاً في الزواج من الضابط خصوصاً وقد أصبحت حاملاً منه. لكن ما سيحدث، وستترتب عليه عواقب وخيمة، أن فيونا ستختفي عن الأنظار، ثم ستظهر فجأةً، وهي في حالة يرثى لها من المرض والتدهور، إلى أن تقضي نحبها في النهاية.
بارشيبا التي لا تعرف التفاصيل المتعلقة بعلاقة توري بفيونا، ستتزوج من توري، لكن هذا الزواج لن يصمد بعد الليلة الأولى، بل سينهار سريعاً بسبب استهتار توري وانكشاف عبثه واستهتاره، وأنه كان طامعاً في مالها، ثم سيعلن- لها مباشرةً- أنه لم يحبّها قَطّ، وأن حبّه الوحيد كان لـ«فيونا»، وسيظل حتى بعد وفاتها!
تحطِّم بارشيبا قلب مساعدها المخلص «غابريل» الذي رفضته في البداية، ورغم ذلك، ظل مخلصاً لها، يحبّها في صمت، ويحرص على رعاية شؤونها، لكن كرامته تمنعه من الاعتراض على خياراتها في الحياة. ستحطم بارشيبا- أيضاً- قلب الرجل الثري الودود «بولدوود» صاحب المرزعة الذي أراد أن يهبها كل شيء، وهو الذي استيقظت عواطفه، بعد طول سبات، تجاه تلك المرأة، منذ رؤيته لها. ولكن بارشيبا ستدفع- أيضاً- ثمن تسرُّعها في الاختيار، وانجرافها وراء مشاعرها مع رجل محتال سيسقط- هو أيضاً- ضحيّة تلاعبه بها، وسيدفع حياته ثمناً.
النهاية السعيدة
تنتهي الرواية و(الفيلم) نهاية سعيدة تتناقض- تماماً- مع فكرة الاستقلالية الأنثوية، وما يردّده كثير من النقّاد حول فكرة الاستقلالية النسائية أو روح الفيمينزم التي تحلِّق فوق العمل «FEMINIST»، فالمرأة التي كانت تصرّ على استقلاليتها، وترفض أن تكون جزءاً من ممتلكات أي رجل، وتصرّ على أن يكون الاختيار قرارها، ترضخ في النهاية لشروط «غابريل»، بعد أن يرهن بقاءه الى جوارها أو مغادرته المزرعة، بل والبلاد بأسرها، بموافقتها على الزواج منه.. فما الذي حدث؟ هل أدركت بارشيبا أخيراً- بعقلها وليس بمشاعرها- أن غابريل- بإخلاصه وولائه وحبه لها- هو الأكثر جدارة بأن تسلِّمه زمام نفسها، وتتخلّى عن استقلاليّتها؟
لاشك أن هذه نهاية ضعيفة لعمل شديد القوة، رغم ميلودراميته الواضحة في اعتماده على الكثير من المصادفات القدرية، بل إنها- على نحو ما، أيضاً- نهاية «رجعية»، فهي تؤكّد أن المرأة، بطبيعتها، لا تقدر على أن تضارع الرجل في قوّته وهيمنته، وأنها لابدّ أن تقنع بدور الزوجة التي ترضخ لزوجها، في نهاية المطاف!
ربما لا يهتمّ الكثير من مشاهدي اليوم بهذه التفاصيل في الفيلم، على اعتبار أن الحقبة الفيكتورية التي تدور فيها الأحداث، تغفر مثل هذه النهاية، التي- ربّما- كانت تتّسق مع عصرها. إلا أن المشكلة الحقيقية في الفيلم الجديد للدنماركي غوتنبرغ (من الإنتاج البريطاني)، أنه- أساساً- لا يضيف جديداً في معالجته الرواية، ثم أنه يبدو أقل كثيراً، في جميع النواحي الفنية، من الفيلم القديم. فبينما كان فيلم شلزينغر يروي الأحداث بإيقاع ملحمي، يقبض على سحر الريف الإنجليزي، ويتوقّف طويلاً أمام مظاهر علاقة الإنسان بالأرض، بالحيوان، بالزرع، بالطبيعة: كانت هناك عاصفة، ووباء يصيب قطعان الماشية، وطريقة بدائية في علاج الحيوانات، ومقاومة ضارية للنيران التي تشتعل- فجأةً- في ضيعة بارشيبا بقيادة غابريل، والمضاربة على أسعار بيع البذور والثمار في سوق البلدة. لكن الفيلم الجديد الذي ربما يكرّر مثل هذه المشاهد، يبدو، في مساحته الزمنية (119 دقيقة)، كما لو كان تلخيصاً للفيلم البديع القديم (الذي كان يقع في 169 دقيقة)، خاصّة وأنه لا يتوقّف ليصوِّر- مثلاً- كيف تفقد «فيونا» فرصة الزواج من الضابط «توري»، وكيف يقامر توري على صراع الدِّيَكة، وكيف يلجأ للعمل في السيرك متنكِّراً في ثياب مهرِّج، بعد أن يكون الرأي الرسمي السائد أنه غرق، وهو يسبح؛ الأمر الذي يدفع بارشيبا الى التأهُّب لقبول عرض «بولدوود» قبل أن يظهر توري- فجاةً- ليفسد كل شيء.. إلخ، وكأنما أراد صنّاع الفيلم الجديد تقديم نسخة مختصرة عن الفيلم السابق!
عن التمثيل
الجمهور الذي شاهد الفيلم القديم سيتوقف طويلاً في تعجُّب، وهو يقارن بين اختيار الممثلين، وأدائهم، ما بين الفيلمين: كانت جولي كريستي، في الفيلم الأول، تتمتع بجمال شديد، وروح تمزج- في أدائها- بين الطفولة والنضج، بين الطفلة والمرأة، تعبث وتلهو وتمرح وتغنّي لرجال مزرعتها، لكنها كانت- أيضاً- صاحبة شخصية قوية، يمكن أن تصبح مهيمنة، ثم تتلاشى هذه القوّة أمام إغواء الضابط، قبل أن تستيقظ- في حيرة- على حقيقة المأزق الذي وقعت فيه، وتظل مضطربة حائرة إلى أن تحسم أمرها في النهاية. أما بطلة الفيلم الجديد، كاري موليغان، فهي- أوّلاً- لا تتمتع بمثل جمال جولي كريستي، أوجمال بارشيبا التي تجعل ثلاثة من الرجال يقعون في حبّها مرّة واحدة، وثانياً، يبدو وجه موليغان، في الفيلم، حزيناً، يخلق انطباعاً بأنها لا تشعر بالارتياح في الدور، فتؤديه في برود وتكاسل، مما يجرّده من الكثير من المشاعر المتدفِّقة التي تميز أداء جولي كريستي في الفيلم السابق.
وبينما كان آلان بيتس يتمتّع بحضور رجولي بارز في دور غابريل في الفيلم القديم، يبدو الممثل البلجيكي ماتياس شونيارتس غريباً على دور ذلك المزارع الإنجليزي الخبير بالتربة والأرض والطبيعة، وقد ظهر- طول الوقت- أضعف من أن يكون هو الرجل الذي ترضخ أمامه بارشيبا في نهاية الأمر. وليس مفهوماً لماذا اختار المخرج «الدنماركي» هذا الممثِّل (البلجيكي) لهذا الدور، كما جاء أداء الممثل البريطاني مايكل شين، ضعيفاً، مقارنةً بأداء بيتر فينش في الفيلم القديم في دور الثري العاشق «بولدوود»؛ فعلى حين كان فينش يثير التعاطف معه بعذابه واضطرابه، وهو الذي يشعر بالحبّ للمرّة الأولى في حياته، يأتي أداء مايكل شين أحادياً، بارداً، ولكن، ربّما يرجع حضوره الباهت- أيضاً- إلى تضاؤل مساحة الدور في السيناريو.
ولاشكّ أن فتنبرغ فشل في إسناده دور الضابط «فرانسيس توري» إلى الممثِّل توم ستريدج، وهو الدور الذي تألَّق فيه تيرانس ستامب في نسخة عام 1967، فـ«ستريدج» يبدو في ملابسه المزركشة وبنيانه الضعيف الهزيل وشاربه المفتول كمهرِّج مضحك، ليس من الممكن أن تأخذه أي امرأة على محمل الجدّ، ولم يكن لمشهد استعراضه مهارته في استخدام السيف أمام بارشيبا، التأثير «الإيحائي» نفسه الذي رأيناه في الفيلم القديم.
لم تتمكَّن المصوِّرة الدنماركية شارلوت بروي كريستنسن من مضاهاة ما حقّقه البريطاني الموهوب نيكولاس روغ، في نسخة 1967، (وهو الذي سيصبح، فيما بعد، مخرجاً مرموقاً) في استخدامه لمصادر الضوء الطبيعية، في الإحاطة بالأفق، بالخضرة، بالبحر، بمشاهد الحقول، بطقوس الحصاد، بمشاهد الحريق والعاصفة، والغرق، رغم محاولاتها الواضحة في المحاكاة واختيار زوايا مشابهة.
عندما قامت جولي كريستي بالدور، في الفيلم القديم، كانت قد أصبحت- بالفعل، منذ فيلم «بيللي الكذاب»، ثم «حبيبتي» (وهما من إخراج شليزنغر أيضاً)- أيقونةً في الثقافة السينمائية الإنكليزية، وقد حصلت عن دورها في «حبيبتي» على سبع جوائز عالمية، منها جائزة الأوسكار، وجائزة «بافتا». أما كاري موليغان، هنا، فربَّما ستظلّ سجينة دورها كمدمنة بائسة في الاستعادة الثانية- أيضاً- لفيلم قديم هو «غاتسبي العظيم» الذي أُعيد إنتاجه العام الماضي!
__________
*المصدر: الدوحة الثقافية.