لا جناح عليك


غصون رحال*


خاص ( ثقافات )

إن حدث ومررتَ بشوارع القدس القديمة، وتجولتَ في أزقتها، وتفقدت ثيابها وحليَّها وبُسطها وآنيتها وعطورها، وأكلتَ من خبزها، وشربتَ من كأسها، وسمعتَ أنين أجراسها، وحشرجة مآذنها، ونواح صخرتها، وشممتَ رائحة تينها وزيتونها، ولمستَ وجع حجارتها وأناسها ودكاكينها، فلم يخفق لك قلب، ولم يطرف لك جفن، ولم تذرف لك دمعة، ولم تطفر منك تنهيدة، ولم يرتفع لك ضغط، فلا جناح عليك.

لا جناح عليك إن استنجَدَت بك نساء، يحملن ملامح أليفة، تشبه أمك أو أختك أو زوجتك، يتصدَّين بما أوتين من “كيد” أو صبر، أو قهر، لأبالسة مدجَّجين بأصناف السلاح والجبروت والحقد، يقفن في وجه عصابات لا ترى في القدس إلا هيكلها المزعوم، يذدن بأجسادهن وما ملكت أرواحهن من عزيمة وإصرار عن أرضك ودينك وكرامتك وقوتك، فأغمضت عينيك، أو أدرت وجهك عنهنّ خجلاً أو وجلاً، وتركتهن يخضن حربك، وينزفن دمك، ويعلين رايتك وحيدات موحدات.
وإن أنت أدرت جهاز التلفاز، وانبثق منه رجال مرابطون عافوا متع الدنيا ومتاعها، ودقوا جذورهم وأظافرهم في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، يرفعون الأذان، ويقيمون الصلاة في أوقاتها وفي غير أوقاتها، راكعين ساجدين مؤكدين حضورهم الفلسطيني الشريف، فأطفأت عليهم نور الشاشة، ورحت تنقِّب عن كلمات ساخطات تنشرها على صفحتك في الفيسبوك معززاً كلماتك بصورة تسرقها عن موقع إلكتروني مناضل، فلا جناح عليك.
ولا جناح عليك إن رأيت ملايين الحجيج يأتون من كل فج عميق، يطوفون ويسعون، يصعدون إلى حيث بوابة الله مشرعة يهتفون على قلب رجل واحد: “لبيك اللهم لبيك”، ينحرون ويتطهرون، يرجمون إبليس، فلا تكبر الغصة في حلقك، ولا تتدارك محتجاً: ما بال هؤلاء الحجيج يتغافلون عن تلبية نداء الأقصى؟ ما بالهم يتعاجزون عن مسح دمعته؟ ما بالهم لا يتسابقون لرجم كبيرهم الذي علمهم السحر، وهو يختال بـ”الكيباه” فوق رأسه، متجولاً في أنحاء حرمك، يصلي صلاتك، ويناجي ربك بأريحيّة مطلقة؟! 
وإن تصفّحت الجريدة، وفوجئت بخبر يبشّرك بأن ست وزارات إسرائيلية تشد من أزر سبعة وعشرين جمعية يهودية، وتمدُّها بالمال والرجال لتحقيق المرحلة الأخيرة من حلمها الموعود ببناء الهيكل الثالث على أنقاض حرمك القدسيّ، مسرى نبيك، وثالث قبلتيك بعد أن نزعت عنه ملامحه الإسلامية والمسيحية، وصبغته بالأزرق والأبيض ولصقت نجمتها السداسية فوق جبينه، ووضعت جدولاً زمنياً لأوقات صلاتك، وجدولاً مكانياً لمسار خطواتك، فاكتفيت بجأر عبارات التعجب والاستنكار، وإطلاق علامات الاستفهام: أين العرب والمسلمون؟ أين المجتمع الدولي؟ أين حقوق الإنسان؟ فلا جناح عليك.
ولا جناح عليك إن حدّثك صديق صدوق بفخر واعتزاز عن نوايا رئيس السلطة الفلسطينية غير الحسنة بإلقاء قنبلة في نهاية خطابه في الأمم المتحدة هذا الخريف دون الكشف عن ماهية تلك القنبلة، فلم يراودك عقلك عن نفسه بالسؤال عما عساه يكون الهدف وراء إلقائه قنبلة في خطاب، في أروقة الأمم المتحدة، في الولايات المتحدة الأمريكية وعدم سماحه إلقاء “صرارة” على قوات الاحتلال القابعة فوق أنفاسه!
لا جناح عليك، لا جناح عليك، للبيت شعب يحميه!
* روائية أردنية

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *