لنا عبد الرحمن
إذا كان في الحياة سحر… إذا كان في الحياة سر، فإن الكتابة هي السر والسحر الذي يتكشف رويداً رويداً عبر حبال من كلمات، نمسك بها بقوة كما يمسك الفارس جديلة شعر رابونزال الشقراء. نتسلق بروجاً عالية مشيدة من حجارة منسية منذ الأزل كي نواجه المسوخ والأشباح والغيلان، وكل الكائنات الخرافية التي لم تخطر لنا على بال… نمضي ونمضي على قدر شجاعتنا.
وإذا كان هذا بعض ما نواجهه في الكتابة، فإن ما نكتشفه في تعليم الكتابة عبر ورشة يلتقي فيها مجموعة من الأشخاص يجمعهم هدف واحد هو الرغبة في إلقاء نصوصهم إلى العالم ينطوي على لذة أخرى تتفاوت رهبتها بسبب تعدد الأوجه والأدوار التي يقوم بها المُشرف، أيضاً الإيمان بأن فعل الكتابة عموماً، وكتابة الرواية تحديداً يأتي من موهبة تُصقل بالاحتراف والتدريب على أصول وقواعد هذا الفن.
«فتنة السرد والرواية» هو عنوان الورشة التي أشرفت عليها على مدى ستة أشهر في مكتبة «كتب خان» – القاهرة، مع أحد عشر مشتركاً تقدموا بمشاريعهم ووقع الاختيار عليهم من ضمن أسماء كثيرة أخرى. الروايات التي قدمت مشاريعها للورشة هي لشباب وشابات لم تتجاوز أعمارهم الأربعين عاماً، وكان هدفي من الورشة هو أن تنجح المخيلة المبدعة في الانتقال من حيز الوعي بامتلاك فكرة «لرواية» إلى حيز الاكتشاف والنقاش والمضي في تتبع الشخوص الشبحية التي تظهر وتتوارى في المخيلة من دون أن يتم الإمساك بها.
كان الأمر بالنسبة إلي أشبه بإحدى الحكايات التي قرأتها في ألف ليلة وليلة حين تطلب الساحرة من الأمير أن يُلقي الماء على الجنية التي ستظهر له من قلب البرتقالة، كي تتحول إلى فتاة أنسية يعيش معها.
في كل يوم سبت من كل أسبوع كنا نلتقي في الخامسة مساء، مدة ساعتين. ومنذ اللقاء الأول اعتمدت آليات العمل في الورشة على شرح أساسيات فن الكتابة الروائي، وأساليب السرد، ووسائل التعبير التي تُمكن المشاركين من إنتاج مشاريعهم الروائية، إضافة إلى تقسيمهم إلى مجموعات للتعود على آلية العمل الجماعي ومضاعفة التفاعل بين المشاركين، بحيث يتم التواصل بين أفراد كل مجموعة لتبادل ما يتم كتابته خلال الأسبوع حتى يكون النقاش حوله واضحاً بالنسبة إلى الجميع، وقد ساعد تقسيم العمل إلى فرق على تبادل الخبرات الثقافية والمعرفية بين المشاركين وتفاعلهم مع النصوص الروائية التي يتم نقاشها والكشف عن نقاط قوتها وضعفها، وما تحتاجه من زخم فكري وفني لتدعيم النص الروائي والوصول به إلى الشكل الأمثل.
«كتابة وفن»
لم يكن هذا الجانب التقني الوحيد الذي تم تنفيذه، إذ على غرار ورشة القصة «كتابة وفن» التي قدمتها في كتب خان عام 2014، واستعنت فيها بلوحات من الفن التشكيلي ومقطوعات موسيقية، فقد اخترت في ورشة الرواية المضي نحو عالم الصورة أكثر، حيث تم التبادل خلال المحاضرات بين الفن التشكيلي والسينما عبر الاستعانة بروايات عالمية تم تحويلها إلى أعمال سينمائية، بحيث تساعد المشاركين على إعمال المخيلة المشهدية، ومن ضمن الأعمال السينمائية التي تم مشاهدتها ومناقشتها والقيام بمقارنة فنية بين العمل الروائي والسينمائي فيلم «المخدوعون» المأخوذ عن رواية «رجال في الشمس» لغسان كنفاني، وفيلم «الحب في زمن الكوليرا» المأخوذ عن رواية لماركيز تحمل العنوان نفسه.
إن اختيار هذه الآلية جاء لإيماني التام بأنه من المهم بالنسبة إلى الكاتب زوال الحدود بين الفنون والانفتاح عليها جميعاً، لأن هذا كفيل بالقيام بعصف ذهني للحواس، وما الذي يحتاجه الكاتب أكثر من حواس مفتوحة على العالم وبصيرة نافذة لرؤية ما لا يراه الآخرون، من هنا يكون هدفي الموازي لأهمية شرح آليات الكتابة وأدواتها تدريب المشارك على تذوق الفنون المختلفة والتفاعل معها في شكل خصب يثري تجربته الحياتية والإبداعية، وربما تنتج الورشة كُتّاباً نقرأ أعمالهم في المستقبل، وربما لا، لأن هذا يتعلق بمدى جديّة الكاتب وإيمانه بفكرة الكتابة؛ الورشة وحدها لا تصنع كاتباً، لكنها ستنتج أفراداً تشاركوا خلال ساعات الورشة في النقاش حول مقطوعة موسيقية، أو لوحة فنية فيها تفاصيل سردية تنفع للكتابة. إن هذا العصف للحواس يثري تجربة المشاركة في الورشة – وفق ظني- ويقدم مفاتيح من المحتمل أن يحافظ عليها بعضهم مدى الحياة.
لقد أنتجت ورشة «فتنة السرد…» ثلاث روايات لكل من آية عزت، نوح حسن، هبة خميس، تم اختيارها من ضمن أعمال المشتركين الإحدى عشر لتوفر بنية روائية جيدة روائياً وفنياً، كما أن الروايات المختارة قدمت اتجاهات مختلفة في الكتابة تتنوع بين الواقعي، والغرائبي والاستشرافي. وسوف تقوم دار «كتب خان» بنشر الروايات الثلاث حال اكتمالها.
لم تكن هذه الورشة هي الأولى بالنسبة إلي، فقد شاركت في ورشات لكتابة القصة لكن فكرة الإشراف على ورشة للرواية شكلت بالنسبة إلي نوعاً من التحدي لإثبات نظريات عدة تدور في ذهني، لتأكيدها أو نفيها. وإذا كانت الموهبة منّة كونية لا يمكن تجاهلها في العمل الإبداعي فإن هذه الهبة لن تشفع لصاحبها وحدها للوصول إلى غايته، هذا ما تأكد لي في شكل حاسم بعد أشهر الورشة الطويلة، الموهبة إن لم تترافق مع العمل الجاد بخاصة في المراحل الأولى التي تسبق التمرّس فإنها ستضيع سدى في غمار التزامات الحياة اليومية. فالإبداع في حاجة ماسة لمن يهتم به ويتناوله ويناقشه ولعل هذا ما تهدف إليه ورش الكتابة الجادة؛ إذ يعي الروائي أسلوب السرد الشيّق ورسم الأبطال والشخصيات، والأهم إيمانه بأهمية ما يكتبه.
لقد تعلّمت الكثير من هؤلاء الشبان والشابات الذين التقيت بهم على مدار الورشة، تناقشنا حول الروايات والأفلام والموسيقى والفن التشكيلي، أثروا تجربتي في إضاءات مختلفة، كما أدّعي أني حاولت منحهم ما تلقّيته خلال رحلتي القصيرة مع الكتابة والفن.
أن تكون مشاركاً في شكل أو آخر في خروج رواية إلى النور ودفع صاحبها للإيمان بها، يعني أن تتمسك بمعيار فني قاس أحياناً لكنه عادل يهدف إلى اختيار الأجود. لا أدّعي أبداً أنني قمت بعملية النقد التي يقوم بها النقاد، بقدر ما استندت إلى منهج المناقشة والحوار والقراءة الإبداعية الواعية من مختلف الزوايا، وترك الرأي الأخير للكاتب نفسه، حيث كنت أردد دائماً خلال ساعات الورشة أن المشرف لا يملك مفاتيح سريّة للكتابة بقدر ما يمكنه أن يلقي الضوء على زوايا خافية عن الكاتب المبتدئ ربما تكشف له ما غاب عنه.
ربما عليّ الاعتراف أيضاً، أنه في ظل كلّ هذا الألم الذي يعايشه الواقع العربي، تحت وطأة الحروب والنزاعات التي تحيط بالفرد أينما كان يظلّ الفن كل الأمكنة والأزمنة التي من الممكن أن نحتمي بها، إنه الخلّية السليمة التي ستتكاثر؛ أؤمن بهذا، وأعمل عليه، وهذا ما سأفعله دائماً، سواء عبر الكتابة، أو عبر ورشة قليلة العدد يجتمع أفرادها على غاية نبيلة هي السعي وراء الاكتشافات الجميلة والحرّة.
الحياة