فان جوخ.. الافتتان بالوجه يخفي الانعزال عن العالم


*د. عمران القيسي


المرثية القصيرة التي رثا فيها «ماتيو» شقيق الفنان «فان كوخ» تقول: «إنك لم تعش أكثر من أربعين عاماً، لكنك كنت حياً في عذابك». الواقع أن الرسام الهولندي وبعد مئة عام من وفاته سيجد من يؤلف عنه في تسعينات القرن العشرين أعمق كتاب. تابع مسيرته بكل دقة وأمانة، ورصد تحولاته الحياتية والتي هي في الواقع تحولات اللغة التعبيرية الانطباعية العصبية بكل ما تحمل من انفعالات، هنا نتحدث عن «فرانكو فيدولفيلو» المؤرخ الفني الكبير، وصاحب النظرة الفاحصة الذكية للعمل الفني الذي أنتجته ريشة العبقري «فنسنت فان كوخ».

حتى هذا الباحث الذكي، قصر كثيراً حين أهمل الجانب التسجيلي من حياة وفن «فان جوخ». اذا ما من فنان في تاريخ الانطباعية كلها، استطاع ان يحاكي العالم والمتلقي، بسيرته وصيرورته، فالسيرة هنا تتجلى بالمتابعة الزمنية الحية لتحولات الوجه عنده، إنه يقرأ في وجهه ما استطاع أن يقرأه في الطبيعة، التي هي قوة متحركة باستمرار ومتحركة بكل ما تملك أو تسيطر عليه من عناصر الحركة. فإذا كان النور أو الضوء هو الكشف المباشر عن هذه الحركة، فإن الزمان الذي يطوي العمر ويترك آثاره في الوجه الإنساني، بوصفه المرآة الأولى للجسد، لا بد وان يتنبه إليه الفنان ويتعامل معه كعنصر داخلي ينبعث للخارج، وليس كعنصر خارجي يلامس الداخل.
كان «فان جوخ» يستخدم المرآة ليرسم صورة وجهه وكان يجتهد ليرفع الرسمة إلى مستوى المحاكاة، لكنه لم ينس أن يضع كثافته الحضورية عبر الزيت حين يصر على إبراز التكوينات الأساسية للوجه، وهذا الأمر دفع الفنان «ادوارد موتش» أن يرسم صرخته الشهيرة حين سمع بموت الفنان «فنسنت فان جوخ».
يعكس وجه جوخ جميع حالاته المرضية وجميع تحولاته وانفعالاته، أليس هو الموضوع الأكثر اقتراباً من الذات. هنا يحق لنا أن نتساءل عن السبب الذي دفع هذا الفنان الذي عاش زمانه الغني بكل يومياته ومعاناته، لماذا سيركز ابتداءً من لحظات شعوره بثقل مرضه عام 1886 على رسم صورته الذاتية باستمرار؟
يقول الدكتور (غاشيه) صديقه وطبيبه الخاص، إن مريضه الرسام «فنسنت فان جوخ» كان يكشف أمامه كل مرة عن مجموعة الصور (البورتريه) الذاتية لكي يريه التحولات التي مرّت عليه خلال هذه الفترة الزمانية، وان الطبيب كان يتعامل مع هذه الصور الذاتية بمثابة نتائج مختبرية لتطور الحالة الصحية للمريض.
ترى هل نحن أمام ظاهرة تجاوزت بمراحل الموضوع الانطباعي، ودخلت حيز التحليل النفسي للعمل الفني؟، أم إننا بتنا نستطيع أن نقرأ البناء التشكيلي العام لأغلب أعمال «فان جوخ» انطلاقاً من البناء الخاص لصورة الوجه – وجهه هو بالذات – والتي رسمها كموضوع، وليس كجذل ذاتي؟
في العام 1887، وبحجم 61×50 سنتيمتراً، رسم بالزيت على الكانفاس حوالي واحد وعشرين عملاً لصورته الذاتية، أتلف أغلبها وأبقى على واحدة ذات دلالة خاصة. إذ في هذه الصورة، التي يضع فيها الغليون بفمه، ويسقط النور على الجانب الأيسر من وجهه، سيركز نظره على المتلقّي، معلناً غطرسته السطحية، التي لم تستطع أن تغطي الملامح الإنسانية البسيطة في وجه هذا الرجل الطيب، بيد أن الصورة التي كانت تنمّ عن مكانه وهو في المرسم، ركنت بين الأعمال التي أهملها. ولم يعرضها على شقيقه الخبير بالفن.
لكن صورته التي رسمها بعد ذلك مباشرة، وهو يرتدي قبعة رمادية، نقلت وجهاً كاملاً للفنان بلحيته الصهباء وعينيه الزرقاوين، إنها حضوره الذاتي، بل غوايته الذاتية في شتاء عام 1887، وكأنه وقد رسمها على مسطح خشبي مجهز وبحجم صغير هو 41×32 سنتيمتراً أراد أن يعلن إعجابه بذاته عندما يكون أنيقاً.
في تلك الفترة من ربيع عام 1887 بدأ «فنسنت فان جوخ» يخرج للهواء الطلق، ويرسم في الحقول خارج محترفه، كان يسعى لأن يرسم بريشته حركة الريح، فالصوت الذي يحزُّ أغصان المزروعات العشبية يتخلله وينقي داخله، لذلك نراه يرسم في (سبتمبر) عام 1877 عدة لوحات لوجهه، وهو يرتدي قبعة القش التي عشقها كثيراً واعتبرها أكبر هدية من الطبيعة إليه.
لكنه انتكس صحياً في العام 1888، وفي الشهر الأول من هذا العام بدأت ملامح ضربته الوحشية. حيث كثافة اللون وشراسة الضربة وهنا فتح كتاب الفن على مصراعيه، حين اكتشف بأن «الفوفزم» أو المدرسة الوحشية هي اندماج الفنان بكونية الحركة لا السكون، وان مستقبل الفن هو هذا الانخطاف النوراني المتحرك. لذلك رسم ذاته بهذا الأسلوب، وبالزيت الكثيف على الكانفاس. كذلك سيرسم وضعه وهو في المرسم مجتهداً وراصداً لكل التحولات.
إن شهر سبتمبر/‏‏‏أيلول من العام 1888، هو شهر انتكاسته الصحية المفاجئة. وبقدر ما صار مقلاً في الرسم، فإنه رسم ذاته كمريض متعب كما رسم غرفته وسريره، وبعض أزهار دوار الشمس والكراسي القش، والغليون الفارغ من التبغ.
وتحل الكارثة في شهر يناير/‏‏‏كانون الثاني من العام 1889، حين يقدم على قطع أذنه، ويرسم ذاته مع الضمادات التي تلفّ رأسه وتغطي الأذن المقطوعة، ومن يحدق ملياً في هذه الأعمال سوف يدرك بأن الفنان قرر قطع علاقاته مع الكثير، ربما في مقدمتهم كما كتب هو بالذات صديقه الفنان (بول غوغان) وفتاة الحانة، وعالم السهر الليلي، وان ينطوي على ذاته.
أما المواضيع التي رسمها في هذه الفترة بالذات، فكانت من الأهمية والخطورة بحيث إننا بدأنا نرى فناناً باحثاً عن أكوان يستطيع هو
وحده أن يراها، وأن أشجاره ذات التفصيل الدقيق، هي التي ستكشف عن رسوم ذاتية تفصيلية دقيقة.
إن صورة لوجهه رسمها في شهر أغسطس/‏‏‏آب من العام 1889، سيكتب خلفها بخط يده قائلاً: أنا مرتاح جداً بسبب اقتناعي بأنه من الصعب أن تعرف ذاتك، وان تقتنع بعدم المعرفة»، وفي الشهر نفسه يرسم صورته الذاتية بالأزرق. وربما كان هذا (البورتريه) الصورة الذاتية الأخيرة له، إذ لم تعثر زوجة شقيقه التي جمعت أعماله الفنية على أية لوحة أو رسمة ذاتية للفنان «فنسنت جان كوخ» الذي مات منتحراً في الحقل الذي رسمه.
________
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *