“الأكاليل الثلاثة”.. عن قضايا الهوية والانتماء والتعصب


هيثم حسين


يتناول الفرنسي فرانسوا جارد في روايته “الأكاليل الثلاثة” قضايا الهوية والانتماء والتعصب، مقاربا روابط الدم والتاريخ والجغرافيا، وتأثيراتها على بلورة صور نمطية أو مفترضة في الأذهان، وتحريكها للناس بهذا الاتجاه أو ذاك، أو دفعهم إلى التناحر والتحارب، انطلاقا من نقاط يفترضون أنها ثوابت وحقائق، في الوقت الذي تكون معرّضة للتشكيك، وقابلة للنقض والتفنيد بناء على معطيات جديدة يتم اكتشافها أو العثور عليها.

يتحدث جارد (1959) في روايته -التي نشرتها دار نينوى بترجمة بشرى أبو قاسم 2015 في دمشق- عن مهاجر أميركي من أصول لبنانية، يعمل قيّما على الوثائق الخاصة، يقوم بتصنيفها وترتيبها وفرزها، ينهض بمهمته التي كان يكتشف من خلالها كثيرا من أسرار الراحلين، وتفاصيل من حيواتهم، كانت مخفية عمن حولهم.
تنكشف أمامه ألغازهم، يلتزم بالتكتم والسرية في عمله، يقدم تقاريره إلى موكليه، ويحاول أن يكون دبلوماسيا في الإفصاح عما اكتشفه عن حياة هذا الميت أو ذاك مما كان يخفى على أهله وأفراد أسرته.
أوهام وحقائق
يفكك جارد في عمله جوانب من الغموض الذي يكتنف بعض الحوادث، وذلك عبر اقتفاء أثر بطله فيليب زافار، اللبناني الأصل، الذي يخترع لنفسه مهنة القيم على الوثائق الخاصة بالموتى.
ويقوده بحثه في أوراق أحد موكليه إلى جزيرة استوائية خيالية “بورغ تاباج”، ليكشف حقائق شوهتها الشعارات، واقع الحرب والسلام في الجزيرة، وجوانب من الشكوك المتنامية بين سكانها، وتدخّل الغرباء في حياتهم ومحاولة رسم مستقبلهم وخرائط تحركهم.
يتم تكليف فيليب زافار بتقييم الأوراق الخاصة لأحد رجال الأعمال الكبار في نيويورك يُدعى توماس كولبيرت، وكان من المهاجرين الفرنسيين، ولديه كثير من الأموال والشركات، وتكون أرملته هيلين راغبة في فرز أوراقه الخاصة وتقييمها.
ينبش زافار بين أوراق الراحل، تستوقفه ثلاث أوراق مكتوب عليها حادثة بحار شاب سنة 1949 في إحدى الجزر التابعة للاستعمار الفرنسي، مر بها البحّار، ويكلف هناك بمهمة غريبة، يتم دفع مبلغ من النقود له من أجل ممارسة الجنس مع إحداهن، وذلك كنوع من المقايضة، شراء النطفة مقابل المال، ووجوب التكتم على الأمر ونسيانه تاليا، كي لا يتسبب بأية فضيحة محتملة.
تشكّل تلك الحادثة الموردة بين أوراق الميت شرارة تلهب خيال زافار، وتثير فضوله، تدفعه إلى البحث عن المكان المفترض، واقتفاء سيرة كيبورت حين كان بحارا، وتقصي حقيقة تلك الحادثة، ومحاولة العثور على تفاصيل أكثر، وربّما العثور على ورثة للراحل الذي لم يحظَ بأي طفل من زوجته هيلين.
بعد كثير من التعقب والتقصي والنبش، يتوصل زافار إلى الجزيرة المفترضة التي تنطبق عليها المواصفات التي كتبها كيوبيرت في مذكراته، وهناك يحدد طريقة بحثه وسؤاله. يتقمص شخصية صحافي وروائي ليسأل عن تاريخ الجزيرة وأبرز الأحداث التي مرت بها، والشخصيات المؤثرة فيها. يلتقي بالأطباء القدامى فيها، كما يلتقي بمؤرخ عجوز يكشف له بعض التفاصيل عن تاريخ الجزيرة وممارسات أهلها. 
يكتشف زافار عبر الغربلة والتنقيب أن المولود من نطفة كيوبيرت هو “بنجامين توبيا”، وهو قائد ثوريّ اغتيل في الجزيرة، وكان محط تقدير أبنائها، كما كان متعصبا للجزيرة واستقلالها، ومتطرفا في دفاعه عن شخصيتها وتميزها وفرادتها، وتسبب في نشوب معارك حزبية بين أهلها.
كما ظلت طروحاته وشخصيته إشكالية حتى بعد رحيله، وقد خلّف ابنا وابنة، وكان والده المفترض قد مات وهو ما يزال طفلا في العاشرة من عمره، وفقدت أسرته أملاكها كلها وعاش فقيرا معدما مع أمه التي كانت مثال الجمال في الجزيرة.
بقع عمياء
يقارب جارد طرق استغلال الساسة لمشاعر الناس وإلهابها بالشعارات، ويسلط الأضواء على ما يهمله المؤرخون، يبحث في البقع العمياء والمناطق المظلمة، وتتخذ الرواية صيغة التحقيق البوليسي، وذلك مع نقل الروائي لبطله من مكان إلى آخر، يتحرى من خلاله الدوافع والأسباب بالموازاة مع الوقائع والأحداث وتفاصيلها المختبئة في طياتها، والتي يحجبها الزمن، أو يساهم في نسيانها وإهمالها.
يعتمد الروائي كذلك طريقة التحقيق الصحافي الاستقصائي في روايته، فالراوي يستقصي عن حادثة معينة، ينتقل بين الأمكنة والأزمنة، يلتقي بالشخصيات المساهمة في الحدث، أو القريبة منها، ينتقل من دائرة إلى أخرى، تتشعب الدوائر وتتسع، ويظل مركزها مدفوعا بقوة تلك الأوراق الثلاث التي تكشف رؤوس خيوط حادثة معينة، ربّما تكون من نسج خيال صاحبها، وتكون القوة المحركة هي الأكاليل الثلاثة التي ذكرها الراحل في يومياته، والتي شكلت ما يشبه تاريخا له ولأسرته، وأمكنته التي ارتحل بينها، وبالتالي لعالمه الذي كبر كثيرا.
يستعيد بطل الرواية من خلال كشفه النقاب عن ألغاز حياة الراحلين بنجامين ووالديه، الحقيقي والمفترض، سيرة والده الذي انتحر في لبنان، ودفع ضريبة الحروب الأهلية التي كان يجد نفسه وبلده متورطا فيها، ولم يجد أي طريق لإيقاف جنون تلك الحروب إلا بوضع حد لحياته.
ينوه جارد إلى أن التوازن الهش الذي يفرض بعد الحروب والنزاعات يكون معرضا للانهيار والخلخلة في أية لحظة، لذلك يختار لبطله التكتم على اكتشافاته عن حياة الراحل لئلا يتسبب بتجدد النزاع في الجزيرة وانهيار توازنها، ولا يتسبب بتدمير الإمبراطورية الاقتصادية التي تركها الراحل، ولا يغير سير الأحداث ويخلق صراعا قد يودي بكثير من الحقائق التي هي في جوهرها أوهام راسخة ضاربة في أعماق التاريخ.
كما يقرر البدء بفرز أوراق والده اللبناني الراحل ونبش ماضيه وتاريخه للتعرف إليه أكثر، والتكلل بأكاليله الثلاثة أيضا.
يثير جارد -وهو كاتب ودبلوماسي فرنسي- الأسئلة إزاء النسب والانتماء وتأثير روابط الدم والمكان والمجتمع في بلورة الهوية، ويصبو لطرح هوية إنسانية عابرة للحدود والأمكنة ومتسامية على روابط الدم، بل تنتصر للإنسان وقيمه، من دون أي تعصب أو تطرف أو عنصرية، وإبراز أن هذا الذي تعصب لجزيرته لم يكن منحدرا من دماء أهلها، بل كان منحدرا من دماء مستعمريها، لذلك فإن العداء للآخر يكون عداء للذات واستعداء لها بطريقة أو أخرى.
ربما ترمز الأكاليل الثلاثة التي يوظفها صاحب رواية “ماذا جرى للمتوحش الأبيض”، إلى الماضي والحاضر والمستقبل في وجه من وجوهها، كما ترمز إلى الهوية والانتماء والدم في وجه آخر، وإلى المال والسلطة والحرية في افتراض ثالث، وإلى الوهم والحلم والكابوس في قراءة أخرى؛ وتبقى مفتوحة على التأويلات لما تحمله من جاذبية متجددة.
الجزيرة نت

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *