*عبد الرحمن مظهر الهلوش
مرت الذكرى السادسة لوفاة المفكر المغربي محمد عابد الجابري بدون الحديث عن مناقب وإنجازات الرجل. لأننا نحن معشر العرب وخصوصاً المثقفين لا نقدّر قيمة الإنسان ومرتبته العلمية مثل بقية الأمم الأخرى، فقد كفّرنا ابن رشد وحرقنا كتبه، بينما في أوربا هناك تقليد سنوي حيث تقام احتفالية خاصة لتكريم ابن رشد في ألمانيا، وعدنا بعد قرون لكي نكرم ابن رشد ونعترف بدوره التنويري. وبالنسبة للجابري مرت ذكرى وفاته في العام الماضي بدون ضجيج وربما ستمر ذكرى وفاته بعد أيام كذلك بدون ضجيج إعلامي وبدون استذكار يليق بالجابري كأحد المفكرين العرب القلائل.
رحل الدكتور محمد عابد الجابري المفكر المغربي العربي الكبير، في الثالث من أيار(مايو) 2010، وترك وراءه نحو ستة وعشرين مؤلفاً أغنت الخزانة الفلسفية العربية والإسلامية في حاضرها ومستقبلها.
وعُرف الجابري بآرائه وأطروحاته المثيرة للسجال الفكري. وكان الراحل حصل خلال مسار حياته الفكرية على جائزة بغداد للثقافة العربية في حزيران/يونيو 1988 والجائزة المغاربية للثقافة بتونس عام 1999 وجائزة الدراسات الفكرية في العالم العربي تحت رعاية اليونيسكو عام 2005، وجائزة الرواد التي تمنحها مؤسسة الفكر العربي ببيروت في نفس السنة إلى جانب ميدالية ابن سينا التي تمنحها اليونيسكو.
من داخل التراث العربي نقد الأصنام، كما فعل فرانسيس بيكون في المنطق الجديد حين انتقد أصنام العقل البشري التي تمنع التعاطي العقلاني مع الدنيا. ولكن الجابري تعامل مع أصنام عينية تطورتْ تاريخياً، هي جملة المفاهيم والإجراءات التي تكسب المعرفة بنيتها اللاشعورية الثقافية في خصوصية معيقات العقل العربي.
وكان عمل الجابري الفلسفي هنا عملاً نقدياً بما في كلمة نقد من معنى. إنه نقد العقل العربي أي «نقد البنية الذهنية الثاوية في الثقافة العربية كما تشكّلت في عصر التدوين.
كان دائم الكلام في سياسة الماضي. فهو يلجأ إلى هذا الماضي السياسي يؤوله بالكمية التي تجعل الحاضر شبيهاً له ونظيراً، حتى يأتي قياسه عليه.
لذا تعرض بالنقد لأبحاث الإسلاميين. في «العقل الأخلاقي العربي» وهو آخر كتبه ضمن مشروعه الفكري الكبير «نقد العقل العربي» يقول الراحل إنّ العقل الأخلاقي العربي تكوّن من خمسة موروثات أخلاقية متنوعة، كل منها جاء من ثقافة وحضارة وحقبة زمنية مختلفة (من الثقافة اليونانية، والفارسية، والصوفية، والعربية، والإسلامية). وأنّ الموروث الأخلاقي الأهم الذي بقيّ من المنظومة الأخلاقية لعرب ما قبل الإسلام واستمر كمكوّن أساسي من مكونات العقل العربي هو المروءة.
ويؤكد جورج طرابيشي على المهمة التي قام بها الجابري وتمثلت في نقل الفكر العربي في أواخر القرن العشرين من أسر الايديولوجيا إلى رحاب الأبيستمولوجيا.
مع أنّ دافع الجابري، في دراساته في «نقد العقل العربي» كان نكسة حزيران/يونيو1967 وظهور «الصحوة الإسلامية» في السبعينات ثم «الثورة الخُمينية في إيران» (كما يقول هو بنفسهِ)، إلا انه في نهاية المطاف وجد نفسه أمام مشروع نقدي كبير هو «نقد العقل العربي»، المشروع الذي سيشغل الفكر العربي خلال ما يزيد على عقد ونصف، غير أنه ينتقل بعد الانتهاء من «نقد العقل العربي» في أجزائه الأربعة إلى دراسة القرآن، مع أن هذا الانتقال يبدو منطقياً للغاية بحسب المسار الذي رسمته دراساته السابقة.
وحينما وصف محمد عابد الجابري العقل العربي، أو جانباً كبيراً منه، بأنه عقل فقهي، فقد كان يستند إلى الآليات التي يعمل بها هذا العقل، وليس إلى المحتوى ذاته، وهي آليات القياس التي ليست فقهية بطبيعتها، ولكنها، عربياً، نشأت أول ما نشأت في علم الفقه وأصوله.
لقد استمرّ الجابري في الخط الذي عاهد نفسه وربه العمل عليه، وهو تحرير أمته، كفكر وأشخاص، مما علق بها من دون أدران وأفكار لا تمت إليها بصلة، والعمل الدؤوب على النهوض بها من خلال اشتغاله اللا مسبوق بتكوين العقل العربي ونقده.
محمد عابد الجابري لم يتردد في التغريد خارج السرب، موجّهاً سهام النقد أيضاً إلى الفكر الحداثي والعلماني العربي المعاصر، فقد نادى بتأصيل الفكر التنويري والتقدمي في سياق عربي- إسلامي، مطالباً بـ»النظر إلى الأمة العربية والإسلامية كمجموع، وليس فقط إلى نخبة محصورة العدد، متصلة ببعض مظاهر الحداثة».
وقد استطاع من خلال اليقين الفكري والمنهجي الذي جاء به بكتاباته، أن يعوض الباحثين عن الارتجاج الذي أحدثه العروي لا سيما في «الايديولوجية العربية المعاصرة»، وإذا كان السؤال هو الطاغي على معظم ما كتبه العروي، فإن الجابري نجح في طمأنة المواطن العربي إلى تاريخه أيما نجاح.
لقد سار الجابري على خطى ابن رشد رائد الفلسفة العربية العقلانية، ويلخص حاجتنا لابن رشد بجمل تصلح في وصف حاجتنا للجابري نفسه، إنها الحاجة «إلى روحه العلمية النقدية الاجتهادية، واتّساع أفقه المعرفي، وانفتاحه على الحقيقة أينما تبدّت، وربطه بين العلم والفضيلة على مستوى الفكر ومستوى السلوك سواءً بسواء».
يقول المفكر اللبناني علي حرب: معه بدأت مرحلة أو موجة جديدة في الفكر الفلسفي بالعالم العربي، من محطاتها البارزة انفجار المشروعات النقدية، وكما تمثل ذلك، بنوع خاص، في رباعية الجابري حول (نقد العقل العربي).
محمد عابد الجابري، صاحب رباعية «نقد العقل العربي»، وأثر الخوض في أركيولوجيا التراث عبر معاقلة لا يبعده كثيراً عن مشروع أركون. «حضور التراث في المخيال الجمعي العربي، هو الذي حرك التاريخ»، والجمع بين الهوية العربية وهذا العقل، يبرهن على فرضية أساسيّة، قوامها «أنّ العقل المدروس، عقل يتعيّن بالتجربة العربية»(11).
لقد أفاد من المنجز المعرفي الفرنسي السائد وقتذاك، وعلى هذا المستوى ميراثاً فكرياً كبيراً يذكرنا بميراث كبار المفكرين الموسوعيين من الذين حاولوا منافسة القديم فهماً، لكن بنوع من الإفادة من مكتسبات الحداثة.
من يعرف الجابري يعرف أنه لا يحاول أن يكون شيئاً، فهو يتصرّف على سجيته كما هو. يلحّ الجابري علينا بابن رشد لأنه في رأيه «المدخل الضروري لكل تجديد في الثقافة العربية الإسلامية في داخلها»، ولأنه «أنموذج المثقف العربي المطلوب اليوم وغداً.
كان الجابري تنويرياً ونهضوياً وغزير الإنتاج، لكنه لم يكن مساجلاً جيداً بالتأكيد، لكنه من المفكرين القلائل الذين ساروا في طريق العقلانية المليء بالألغام.
غير أنّ هذا كله سينسى وستبقى منه كتب شائقة ممتعة حاملة كل أنواع اليقين والمواعظ.
_____
*القدس العربي