ليلى البلوشي
لأن هذا العالم مثير للقيء، الكآبة، التجهم، انتحار الضمير الجمعي، وتمرير التهم الجاهزة، لأننا كلنا أصبحنا معلبين في مؤامرة ما، متهمين بالتفرّج والعواء الذي يثقب الحنجرة في صدى أصم، لأنني عاجزة أمام عويل طفل، مكسورة في حضرة قلب أم فقدت كل صغارها غرقا في بحر الموت هربا من القاذفات والراجمات، ومن زلزال قنابل الطغاة على عشّهم الصغير، لذا لا أريد أن أخاطب هذا العالم؛ فهو عالم ميت تماما، لا روح فيه ولا نبض ولا ضمير، عالم أحشاؤه خواء، متبلد تماما، أخرس، أصم، أعمى، فانٍ!
لقد افتضح هذا العالم، افتضح تماما، تلك الأزمات التي اكتسحت معظم بقاع العالم العربي المشتعل لم يدفع ثمنها سوى الإنسان العربي المعدم، الذي تأكد تماما أن أرضه ما عادت أرضه، أن خنوعه وخضوعه أمام الطاغوت في وطنه في زمن السّلم المحفوف بالفساد والمؤامرات هي أول وأعتى أسباب سقوطه المدوّي، لقد أدرك تماما أنه سقط وألا أحد هناك من زبانية السلطة لانتشاله وأبناؤه وأخوة أرضه ووطنه من هاوية السقوط، لقد أدرك تمام الوعي أنه كان أحمق وجباناً وعبداً وها هو الآن يدفع ثمن سكوته في وجه الطاعون ذلاًّ وتشريداً في عالم ميت، ميت تماما، وعليه وحده أن ينتشل نفسه بنفسه من تيهه في دروب العتمة والضياع!
هؤلاء ضحايا صراعات سلطوية يفرون من كل حدب وصوب خوفا على أنفسهم من الموت، على الأقل لهم سبب يشعرهم بالحياة، يشعرهم بأهمية المقاومة من أجل الحياة، تحت نير تلك الظروف الحالكة، المهلكة، هم أحياء حقا، وحدهم الأحياء بيننا نحن الموتى!
هم يكافحون لنيل حياة كريمة في ظل عالم ميت، يكافحون ولا يكفون عن المحاولة، لقد ذاقوا أشكال الموت من قبل، خبروها جيدًا، لقد خاضوا تجارب مريرة هم وأبناؤهم شتى أنواع الرهبة ما قبل الموت، لقد استطاعوا بمقاومتهم أن يعلنوا للعالم الأجمع، العالم الميت، أنّهم أكثر أحياء منا، أكثر استحقاقًا للحياة.
بينما في هذا العالم نحن كالأطياف، ما عدنا نعرف هل نحن أحياء أم أموات..؟
نخشى بأننا ميتون حقًا، نخشى أن نموت كميتة هذا العالم الميت، أن نكون جيفة منتّنة، علاها العفن وتآكلت عظامنا رميماً.
نحن الذين نخوض صرعى في حلقتين لا ثالث لهما، فإما أنّ نكون موتى متفرجين أو موتى صانعين للموت.
الموتى المتفرجون، الذين لا حيلة لهم، لا حول ولا قوة لهم، يوخزهم ضميرهم، وتوجع قلوبهم كل حالة إنسانية طارئة، هم على الأقل أموات يدفعون ثمن موتهم المتفرج بالوجع الصامت أمام واقع متبلّد وجدوا أنفسهم فيه عاجزين تماما عن إيقاظه من ميتته الأولى، هم على الأقل أموات أحياء.
بينما الموتى صانعو الموت، هم أصحاب الميتة الكبرى، الكاملة، لأنّهم أصحاب سلطة وسيادة ومال وجاه وقدرة ولا يفعلون شيئا سوى صناعة الموت، المزيد المزيد من الموت، ولا يكتفون بذلك بل يتفرجون مع المتفرجين المعدمين الذين يتفرجون بوجع نفسي مرير بينما صانعو الموت يتفرجون بسخرية مقيتة؛ فجلّ مكاسبهم السياسية والمادية والدنيوية كانت بفضل العالم الميت، بفضل الموتى المتفرجين، بفضل اللاجئين والخاضعين، المستسلمين الخانعين، هم صنيعة هؤلاء، إنّهم يكسبون بفضل سكوتهم ذهبا وبفضل انكسارهم ماسا، يلهثون كأفاع مسمومة على جثث وشظايا من صنيع سلطتهم الجبارة.
“كلنا ميتون، كلنا، فيا له من سيرك! وكان يجب أن يكون هذا كافيا لنحب بعضنا البعض، ولكن هيهات؛ فالتفاهات تفرغنا، وتسعدنا، ويستنزفنا اللاشيء.
الرؤية