*بسمة النسور
مليون سلام لروحك الثائرة، الحرة الحية المحلقة عالياً، في فضاء من بياض يشبه ملامحك الحنونة. يا شقيق فايزة، أمك الثانية التي شكوت لها، بأكثر العبارات صدقاً وتدفقاً واحتراقاً، انكسارات قلبك المأهول بالحب العصي، أيها الجميل النبيل المبدع المرهف الحزين الهش الغيور العصبي النزق الغاضب المتوتر الشجاع، المسكون، حتى أخمص الروح بالوطن وأوجاعه الكثيرة، الفارس الذي ارتقى عالياً في عز الصبا شاباً أبدياً، منسلاً من سنوات عمر ثلاثيني وجيز، مضى كشهاب خاطف، قابضاً على الجرح والحلم.
أيها الأمثولة والدرس في العشق والحياة كما ينبغي لها أن تكون، معذرة غسان كنفاني، وأنت المعلم الكبير في الرفض والمقاومة والتشبث بالحق، والإصرار على الحرية شرطاً إنسانياً، لا تستقيم حياة بدونه. سؤالك الاستنكاري اللاذع الذي دان مبكراً الطغيان والظلم، وحفّز على التصدي له، بكل الوسائل المتاحة، سؤالك المضني الأكثر شهرة، العابر للنكبات المتتابعة، بات كليشية غير قادرة على إحداث التأثير النفسي المعهود من فرط التكرار، وقد جرى استهلاك هذه العبارة الصفعة التي كتبتها ذات اغتراب قسري، كانت أسبابه، على الرغم من شحّها، متاحة نسبياً أمام الفلسطيني الشريد المطرود المطعون في وطنه وأمانه، إلى بلادٍ تزعم عروبية وقومية ملفقة، أوصدت أبوابها دون أبناء سورية، في هذا الزمن الجائر شديد الاعوجاج، عديم الضمير، منزوع الإنسانية، مغيّب الحواس، بليد المشاعر، تمر على أهله الغافلين، غير العابئين، مشاهد السواد المروعة لشاحنة الموت، يقودها جزارون قتلة على حدود النمسا، حيث جنتهم الموعودة وحلم الخلاص غير القابل للتحقق، كما يبدو، مكتظة بجثثها المكدسة بعبثية وقسوة وقبح، بكل تلك الحيوات المدورة الهاربة، تلوذ مكرهة من باب (شو جبرك على المر) بدروب عصابات التهريب الخلفية الملتوية المعتاشة على عذابات البشر مصدر دخل سريع ومضمون، بدون أدنى كلف سوى أعمارهم المعروضة في مزاد علني حتى الفجور، دروب بنهايات ميتة، لا تفضي إلى شيء سوى الموت نفسه، حيث تنطلي على المنكوبين المهجرين عنوة خديعة الأمان والاستقرار، فيرضخون لكل أشكال الاستغلال النذل، يتدبرون، بشق الأنفس، مبالغ يدفعونها بالعملة الصعبة، أملاً ببدايات جديدة في أرض بعيدة، يترافقون مع الخيبة والخذلان على عتبات القارة الأوروبية، حيث حلم النجاة معلق بكلابات الغدر واغتيال الأحلام المشروعة، بعيش بسيط عزّت أسباب.
لم يعد سؤالك الذي ذهب مثلاً صارخاً تداولته الأجيال في محله، ذلك أنهم على النقيض من رجالك الذين ربضوا صامتين تحت هجير الشمس، خشية انكشافٍ وترحيل، هؤلاء قرعوا جدران الخزان مراراً، وما زالوا يقرعون جدران هذا الكون الأصم الغادر، ولا مكترث أو مجيب لاستغاثة من ضاق بهم وطن منهوب محتل ومصادر ومشرع أمام حثالة الأرض، مجتمعين ومنفردين، يلقون فوق الرؤوس التي لم يعد يظللها ظل براميل الحقد الأسود، فتدفعهم إلى الهروب، مع من تبقوا من صغارهم، إلى احتمالات حياة أكثر رحابة.
______
*العربي الجديد