الكتابة بوصفها فن الحذف والاختزال


*عبد الجبار الرفاعي



منذ أن بدأت الكتابة ما زلت أتهيب الكتابة، ففي كل مرة أقرر أن أكتب أحاول الهروب، وغالباً ألتمس الأعذار بانشغالي، وندرة ما يتوافر لدي من وقت فائض أخصصه للكتابة، وربما هربت إلى حيل نفسية، تنقذني من مأزق “هلع الكتابة”. كنت أحسب أنّي مصاب بشلل في الإرادة، وأنّي أنفرد بذلك، غير أنّي اكتشفت أنّ معظم الكتاب الجادين يعانون من ذلك، ولعل من أعنف توصيفات وجع الكتابة ما تحدثت عنه الأديبة آني إيرنو، بأنّ “الكتابة كخنجر”، أو قول إرنست همنغواي عندما سُئل عن أفضل تدريب فكري لمن يريد أن يصبح كاتباً، فأجاب: “إنّ عليه أن يذهب ويشنق نفسه، لأنّه سيجد أنّ الكتابة صعبة إلى درجة الاستحالة. ثم ينزل عن المشنقة، ويفرض هو على نفسه أن يكتب على أفضل ما يستطيع للبقية الباقية من عمره. عندها سيكون لديه قصة شنقه بمثابة بداية”.
يبدو أنّ هروبي وغيري من الكتابة يكشف عن شعور غاطس في الوجدان من خشية الفشل في إنتاج نص يرضي القراء، ويمنحنونه اعترافهم، مثلما يخشى الفشل كلُّ شخص يباشر عملاً نوعياً في حياته، فيحترز ويحذر كثيراً، قبل أن يقدم على أيّ خطوة في إنجازه.
يسألني الكثير من تلامذتي عن كيف يمكنهم تعلم الكتابة، وعن مجموعة القواعد والمعايير والوسائل التي تمنحك تلك الموهبة. وعادة ما أجيبهم أن ليست ثمة قواعد ووسائل صارمة تقودهم إلى احتراف الكتابة. بل طالما كررت أنّه “كما الاقتصاد سياسة مكثفة، كذلك الكتابة مطالعة مكثفة”. فمن دون تراكم قراءات متنوعة متواصلة ليس بوسعنا أن نكتب ما هو مفيد. في القراءة أيضاً علينا أن ندرك ألا كتاب حقيقي يغني عن بقية الكتب، وأن ليس هناك كاتب تغني مطالعة آثاره عن كل الكتب.
الكتّاب الجيدون قرّاء جيدون، مالم تكن قارئاً نهماً، لا تكف عن ملاحقة كل ما هو هام من إنتاج فكري وأدبي، لا يمكنك أن تكتب ما هو هام ومميز، خاصة مطالعة ما يتصل بالمجال الذي تتمحور اهتماماتك فيه. الكتب الخالدة هي خلاصة خصبة جداً لمكتبات كاملة، تم استيعابها وهضمها وتمثلها، وإعادة سبكها وتكوينها في مركب مختلف، لا يتلمس مرجعياته والمناهل التي استقى منها إلاّ أولئك الخبراء من القراء. وكأنّها بمثابة تفاعل عنصرين لينتجا مركباً لا يشبههما، كمثل إنتاج الماء من الأوكسجين والهيدروجين. في الكتب الخالدة كلُّ صفحة تختزل ألفَ صفحة، كلُّ عبارة تختزل ألفَ عبارة، كلُّ كلمة تختزل ألفَ كلمة. الكتابة بلا قراءة هي نحو من اجتراح المستحيل، إنّها بمثابة من يحاول تشغيل محرك بلا وقوده الخاص. لا أنفي وجود أمثلة تفتقت عن إبداع خلّاق في الفلسفة والأدب والفن، كان منبع الإلهام الأثري لها هو التأمل العميق، والسياحة العقلية الروحية العاطفية في الآفاق الظاهرة والمضمرة للذات والإنسان والحياة والعالم. لكن تلك الأمثلة إنْ هي إلاّ انفرادات استثنائية جداً.
إن كانت الكتابة تتوالد من المطالعة، فبماذا نفسّر تدفق كل هذا الكم الهائل كالشلال اليوم من النصوص. فبعد شيوع قنوات النشر المجاني، وإتاحتها الفرصة لكل من يشتهي الكتابة والنشر، أضحى عدد الكتاب بعدد صفحات الفيس بك وتويتر والصحف الألكترونية والمواقع العامة والشخصية على الأنترنيت. معظم هؤلاء ممن لا علاقة له بالقراءة بالمفهوم الاحترافي. هذه الظاهرة تعبّر عن منعطف بالغ الدلالة، يؤشر إلى انتقال الاجتماع البشري إلى عصر ثقافي جديد. هو منعطف كأنّه قدر ثقافي، لا يمتلك المرء حياله خيار الرفض والمقاطعة، لأنّه يحيطنا ويغطي كلَّ فضاء في حياتنا. حتى أولئك القلائل الذين يتعاطون معه بريبة وخوف، ويرونه ضيفاً غير مرحب به، لكنهم يعرفون ألا أحد اليوم يستغني عن الأنترنيت وما يقدّمه من خدمات، وما يؤمّنه من شتى احتياجات الفرد والمجتمع، وما يموج به من بحار المعارف والعلوم والفنون، مما لم يجتمع في حيز واحد، بهذا الشكل المجاني الميسر الاستخدام، مذ عرفت البشرية تداول المعارف والعلوم. إنّها المرة الأولى في تاريخ الحضارة الذي يخترع الإنسان فيها فضاءً افتراضيًّا موازيًا للفضاء الواقعي، يعمل على تأمين المتطلبات البشرية الواقعية، بحذف الكثير من الكلفة والمشقة والمعاناة والجهود المرهقة.
من سمات هذا العصر الثقافي الجديد كسر احتكار الكتابة، وتعميمها للكل، وهو تحوّل بالغ الأثر في الحاضر والمستقبل. لست حانقاً أو متشائماً أو قلقاً من هذا المنعطف الكبير، في تبدل أنماط التعبير والإشهار والنشر، ذلك أنّ هذا الفضاء البديل في التمرين على الكتابة والنشر، قدر ما يتضمن من ثرثرة وهذيان وفوضى وضياع، هو أيضاً يضعنا للمرة الأولى في تحد مختلف، يختبر الكتابة الأصيلة في الرهان على تميز حضورها، ومقدرتها على ممارسة وظيفتها في الإبداع، وإعادة خلق التفكير المختلف وبنائه. وبموازاة ذلك ستبتكر هذه القنوات البديلة للانتشار أنماطَها المشابهة لها من النصوص، وهكذا أنماطها الخاصة من القرّاء، مثلما ترسّخ تقاليدَ أخرى للقراءة، وأساليبَ جديدة لتلقي المعرفة، بل لعلها تصوغ لنا مفهومها الخاص للثقافة والمثقف غداً.
لا أريد أن أستغرق في القول أو أتشاءم فأقول: لعل الغد سيفاجئنا بنحو تصبح فيه معايير الجودة والانتشار مغايرة تماماً لما نعرفه. لكن أود الإشارة إلى أنّ من ينتمي إلى تقاليد الكتابة والنشر الورقي، من أمثالي، يصعب عليه استيعاب ما ستباغتنا به طبائع الثقافة والتثقيف والمثقف الآتية. أرى إلى ذلك، وأنا أعيش تجربة أقحمتني فيها الأجهزة اللوحية الجديدة “الآيباد”، وهكذا الهواتف مثلها “الآيفون”، التي تبدلت معها طرائق تلقي المعلومات وتداولها، لأول مرة في حياتي رغماً عني. فقد منحتني هذه الأجهزة إمكانات مدهشة للسياحة والترحال في عوالم لا يوحّدها إلاّ أنّها تتضمن كل ما بحثت عنه من كتب نادرة لسنوات طويلة، ولم أعثر عليها، وآفاق فسيحة للمعرفة ومختلف المعلومات، وكل ما أود معرفته بغرض التعلم، أو الخروج من الرتابة والملل، بحثاً عن الاستراحة والمتعة، في حالات العزلة والغياب عن المجتمع. الكثير من الزملاء في جيلي لم يسرقهم هذا العالم مثلما سرقني، إذ اضمحلت مطالعاتي للصحافة الورقية، ذلك أنّ الصحف كافة متاحة لي بعد صلاة الفجر كل يوم. كما تراجعت لدي حالات العودة لمطالعة الكتاب الورقي، بعد توفر أعداد لا حصر لها من العناوين، التي تبحث مختلف المعارف والفنون والآداب. كذلك لم أعد أستخدم القواميس والمعاجم والموسوعات، بعد وجود نسخها الألكترونية محمولة معي حيثما أكون، ففي كل مرة أكتب لا أحتاج إلاّ وقتاً قليلاً لمراجعة مصادر المعلومات لحظة الكتابة، للتثبت من معلومات أسوقها في سياق النص، بينما كان التثبت من معلومة فيما مضى يتطلب مني أحيانًا ساعات عديدة وربما أياماً، من التفتيش في صفحات المراجع. أتذكر قبل سنوات كنت أحيانًا أراجع كتاب: فهرست ابن النديم، وكشف الظنون، ومعجم المؤلفين لكحالة، والأعلام للزركلي، والذريعة للطهراني.. وغيرها، بغية معرفة كتاب أو مؤلف أو معلومة معينة. عادة لا تضم مكتبتي كل ما أحتاجه في كتاباتي، فأضطر لمراجعة المكتبات العامة، أو ما تضمه خزانة كتب الأصدقاء. الظفر بكل ذلك اليوم لا يكلفني سوى استعمال مفاتيح الجهاز اللوحي أثناء كتابتي النص من خلاله، ليكشف لي عاجلاً عن بحر من المعلومات، يقدم خيارات متعددة لكل ما أبحث عنه.
كنت حين أكتب في الماضي أستهلك كميات ليست قليلة من الأقلام والأحبار والأوراق، غير أنّي غادرت القلم والورق منذ سنوات، ووجدت قبل فترة أنّ مجموعة الأقلام المهجورة في مكتبتي قبل سنوات قد تخشبت أحبارها، فألقيتها في مكب النفايات.
ينحاز جيلي إلى الورق والكتاب، ففي كل مرة يجري الحديث عن الوظائف البالغة الأهمية للنشر الألكتروني، وقنواته، وأشكاله، ووفرته حد التخمة، نصر على أنّ الكتاب الورقي لن يزول اليوم أو في الغد، وأنّ النشر الألكتروني لا يمكن بأيّ حال أن يزيح ما هو ورقي. لكن منطق الواقع أشد قسوة من منطقنا الرومانسي، وحنيننا ووفائنا لذاكرتنا، وما ترسّب فيها من ألوان الحبر، ونكهة الورق، وجمال المكتبات، وتناسق رفوف الكتب، والإيقاع الهادئ لحضور الكتب في فضاء المنزل. ففي منازل الكتّاب، ممن تتبعثر الكتب بشكل فوضوي في غرف بيوتهم وباحاتها، يستمع منها المولعون بالورق إلى سمفونية تفيض على أرواحهم رقةً وهدوءاً. لوجود الكتاب الفيزيقي معنى لا يتذوقه إلاّ أولئك المولعون بالورق، ذلك أنّهم يتعاطون معه وكأنّه صديق حميم، يبدّد وحشة عزلتهم، وينقذهم من القلق واليأس، ورفيق روح يبوح لهم بما لا يبوحه أقرب الخلان، ومصباح يضيء عقولهم بما لا يقتبسونه من أي ضوء غيره، ومحطة استراحة تبدّد شعورَهم بالقرف والملل، وتكسر نمطية حياتهم ورتابة التكرار فيها. لحظة ينخرطون في حوار مع الكتاب: يحدثهم فيحدثونه، يصغون إليه فيصغي إليهم، يناقشونه فيناقشهم، يشاكسونه فلا يمتعض منهم، يبقى على الدوام يهبهم ما يتوقعونه وما لا يتوقعونه منه، بلا أي ثمن.
أعرف جيداً أنّنا كائنات مشدودة بحبل وثيق لما ترسب في أعماق الذاكرة، فمن يصاحب الورق والكتاب عدة عقود في حياته، ليس بوسعه الإفلات من شباك ذاكرته، غير أنّ ذلك كله لن يوقف صيرورة التاريخ، ولن يعطل روح العصر، ولن يسمح لنا أن نلبث طويلاً مسجونين في نمط ثقافتنا المألوفة، والإصرار على سلّة أحكامنا القيمية ومعاييرنا المحلية. نحن في تحدّ أنطولوجي أو قل حدث وجودي يحكي انتقالاً إلى طور وجودي مختلف، نشهد إرهاصاته في سياق تطور الاجتماع البشري.
بالضرورة، سيفضي ذلك إلى تبدل أنماط حياتنا الثقافية، ووسائل تعاطينا المعارف، وعوامل إنتاج المعرفة، وانتشارها كونياً، غير أنّه لن يفضي بالضرورة إلى المزيد من الضياع والتيه في عالمنا.
أما مآلات الكتابة، ومعايير اصطفاء ماهو نوعي ونموذجي من نصوص، في عصر فوضى الكتابة، وممارسة الكل الكتابة للكل، فربما يبدو للوهلة الأولى مستحيلاً، إلاّ أنّي أظن أنّ تميز النصوص المضيئة المتوهجة واصطفاءها ليس متعذراً، إذ لا يمكن أن يحجب الظلام ضوء شمعة، ضوء الشمعة يفضح الظلام مهما كان شديد الحلكة، ولعل الشمعة وسط ركام الظلام تسفر بوضوح أشد عن شعاع نورها مما لو كانت وسط مصابيح مضيئة.
في الكتابة يمكن القول، عكس ما تقوله قاعدة تداول النقود الشهيرة: “تطرد العملةُ الرديئة العملةَ الجيدة”، في الكتابة تطرد “الكتاباتُ الجيدة الكتاباتِ الرديئة”. ذلك ما يبوح به تاريخ الكتابة، بدءاً بأول نص كتبه البشر حتى الآن، ولا يمكن أبداً أن تبلغ الكتابة مرحلة تغدو فيها الكلمات الشفاهية والهذر والثرثرة كتابةً، أي تنفي الكتابةُ ذاتَها.
لقد ظهر التدوين مبكراً، وابتكر الانسان طرائق متنوعة لتدوين كتاباته، مذ كان يرسم أحلامه وأفكاره على جدران الكهوف، ثم كتابته على ألواح الطين، والحجر، فالبردي، والعظام، والجلود، إلى الورق. ظلت الكتابة على الدوام أغنى مستودع أودع فيه الإنسان منجزاته وإبداعاته، وخزان يتسع لاستيعاب كلّ أوهامه وأحلامه وأفكاره، وسجل يحتفظ بأوجاعه، ومدونة لأرشفة مواقفه. لكن منطق القانون العصي على التغيير للكتابة، يشدد على محو كافة كتابات البشر الرديئة، إذ سرعان ما تختفي، مهما واكبها من إملاءات السلطة وقهرها، ومهما صاحبها من دعاية، وإنفاق رؤوس أموال لترويجها، ومساعي جماعات لإشهارها، وما تعمله من تهريج وضوضاء. فمثلاً في حضارة وادي الرافدين ما هو مكتشف أكثر من مليون لوح ورقيم كتابي، ومالم يُكتشف في المواقع الأثرية غير المنقبة أضعاف ذلك، بيد أنّ ما له قيمه نوعية، وما استطاع أن يخترق العصور وجغرافيا المكان، هو نصوص قليلة جداً من ذلك الموروث الهائل، إذ نلاحظ مثلاً فقط: ملحمة جلجامش، شريعة أور نمو، شريعة حمورابي.. وبعض المدونات القليلة الخالدة. وهكذا هو الحال في ميراث الحضارات الأخرى الموازية لها.
كما أنفق في عصرنا معمر القذافي ملايين الدولارات على نص تافه، كتبه بعنوان: “الكتاب الأخضر”، ودشن عدة دور نشر وظيفتُها طباعته وترويجه، وحرص على إقامة مؤتمرات وندوات وجوائز من أجله، تسابق إليها بعض المرتزقة المتسكعين على فضلات السلاطين، بل أنشأ مؤسسة دراسات رصد لها ميزانية ضخمة، مهمتها تتمحور في تفسير الكتاب الأخضر، وإنجاز دراسات وشروح له تشبهه، مع كل ذلك انتقمت النصوص الجادة من هذا النص البائس، وسرعان ما محته من ذاكرة الكتابة.
وهكذا فعل زعماء آخرون، وانتقلت العدوى أيضًا إلى بعض رجال الدين، وتفشت هذه الموضة لدى بعض من هو مسكون بنشر كل ما يقول من: أحاديث لوسائل الإعلام، وخطب منبرية، ومحاضرات شفاهية، وأحاديث عفوية. ذلك أنّه يتم ضبط كل عبارة يتفوه بها وتسجيلها، ويتولى فريق خاص نقلها على الورق، لتغدو كتباً، سرعان ما تأخذ طريقها للطباعة والنشر، على الرغم من أنّها لا تساوي قيمة الورق الذي تطبع عليه.
كنت أقول لأحد الأصدقاء: ستمحو ذاكرةُ الكتابة كلَّ ذلك، إذ ليس في هذه الكتب أي شيء ينتمي إلى الكتابة الحقيقية، لذلك ستطردها الكتب الحقيقية، وليس فيها ما يبقى، بوصفها لم تتوالد من رحم صعوبة الكتابة. إنّها ليست سوى أحاديث شفاهية وكلمات استطرادية، مسكوبة حبراً على الورق. ما هو مكتوب يختلف نوعياً عن كل ما هو شفاهي، وقد دللت الأيام أنّه قد أوشك أن يموت كل شيء شفاهي تحوّل كتاباً، لحظة موت هؤلاء الزعماء السياسين ورجال الدين، ممن ظلوا مسكونين بموضة “شفاهية الكتابة”.
تشيع الكتاباتُ الرديئة، ويتورط فيها بعض من يمارس الكتابة في عالمنا، وهي ممارسة للكتابة تنفي الكتابة الأصيلة الجادة، أو هي “كتابة ضد الكتابة”. إنّها ضرب من الهذيان والغثيان أحياناً، نصوص يضيع فيها القارئ، كما ضاع فيها الكاتب قبله، إسهاب لنثر تتكدس فيه كلمات لا تنتج معنى، إنشاء تضطرب المعاني فيه، بنحو ربما نلتقي فيه بكل شيء سوى الكتابة، أو ينقض كلُ شيء كلَ شيء فيها، أو إنّها مصفوفة أحكام معيارية، تمنح كل شيء قيمة زائفة، دون أن تحلل وتناقش وتفسّر أيّ شيء.
إنّهم: يكتبون دون قراءة، يكتبون دون تأمل وتدبر وتفكير عميق، يكتبون دون مراجعة وتحرير وتهذيب، وإعادة كتابة، وحذف واختزال وتكثيف، يكتبون دون ألم ومعاناة الكتابة. أليست كتابتنا مرآة قراءاتنا، فكل ما نكتبه إن هو إلاّ نسيج متشابك يحيل إلى شتى المراجع المتراكمة في ذاكرتنا؟ أليست الكتابة فن الحذف والاختزال والتكثيف؟ أليست كتابتنا مثلما نحن ننتجها هي أيضاً تنتجنا، إذ تعمل على صياغة رؤيتنا للعالم، وترميم إدراكنا لمحيطنا وعصرنا، وتشكيل نمط وعينا؟
لا يمكن تعلم الكتابة إلاّ بالكتابة، لا يمكن تعلم الكتابة إلاّ بتكرار الكتابة. يقول إرنست همنغواي: (كتبت نهاية “وداعاً للسلاح”، الصفحة الأخيرة منها، تسعاً وثلاثين مرة، قبل أن أشعر بالرضا). ليس بوسع أي كاتب تعلم الكتابة إلاّ بإدمان الكتابة. الكتابة تمرين أبدي، وقوده المطالعة المزمنة، والتفكير المستمر، والمراجعات المتكررة، وشطب ما ينهك النص، واستبعاد ما يطفئ توهجه، والعمل على خلق العبارة، وترصين بناء الجملة، وتكثيف الدلالة بأقل ما يمكن من كلمات. الكتابة هي اقتصاد الألفاظ. الكتابة هي إعادة كتابة.
يُصاب بعضُ الكتاب بهوس عاطفي، وعمى ذهني، يغرقهم في عالم متخيل يصنعونه هم لذواتهم، كي يرضوا نرجسيتَهم، فيضاعف وهمُهم قيمةَ منجزهم وأثره عشرات أو مئات أضعاف أثره وقيمته الواقعية، متخيلين أنّ القراء يترقبونهم كل يوم، متلهفين لآثرهم الجديدة، لذلك يسرفون في الكتابة، ويظلون على الدوام مشدودين لإلى حركة المطابع، إلاّ أنهم لا يدرون أنّ كل كتاب جديد رديء يصدرونه سيزيح بعضَ ما ربما كان جيداً، فيما كانوا أنتجوه من قبل.
الكاتب الحقيقي يكتب كتاباً واحداً، الشاعر الأصيل ينشد قصيدة واحدة، ما يضيفه الكاتب هو تنويعات تحيل على ذلك الكتاب الذي كتبه، ما يقوله الشاعر هو تنويعات على القصيدة التي أنشدها.
——
*مؤمنون بلا حدود

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *