محمد حسين هيكل .. أسس السرد العربي “سرًّا”


منة الله الأبيض

تبدو العلاقة بين الأدب والقانون مُعقدة، تكتنفها الكثير من الصعوبات كي تكوّن حزمة واحدة متشابكة، لكن الواقع العملي ضرب بهذا المبدأ النظري عرض الحائط، فأفرزت دراسة القانون بشكل أو بآخر أدباء مارسوا الأدب ليلًا، ووقفوا أمام القاضي نهارًا. 

من هؤلاء الذين جمعوا بين الأدب والقانون، الأديب والسياسي محمد حسين هيكل، الذي وُلد في  20 من أغسطس، عام 1888، في قرية كفر غنام بالمنصورة في محافظة الدقهلية. درس الحقوق وحصل على درجة الليسانس عام 1909 من مدرسة الحقوق الخديوية، ونال الدكتوراه في القانون من جامعة السوربون في باريس، وعمل بعد عودته إلى مصر كمحام لمدة 10 سنوات، وتم اختياره بعد ذلك ليكون رئيس تحرير جريدة “السياسة”. 
البعض يرى أن جفاء دراسة القانون، هو وراء لجوء القانوني إلى كتابة الأدب لتهذيب الروح، والخروج من دائرة القانون الجافة، لكن لـ”حسين هيكل” رأي آخر في ذلك، فقد رأى أن رجل القانون إذا أراد أن يُحسِن القيام بعمله كمحامٍ أو كقاضٍ أو كعضو في النيابة، فعليه أن يكون أديبًا. 
المحاماة في رأيه هي “عرض الوقائع عرضًا شائقًا وتوجيهها إلى غاية تقنع القاضي وتقنع الجمهور السامع بما في كلام المحامي من حق، وكلما ازداد المحامي حسن أداء في الكتابة وفي الكلام كان أقدر على أداء مهمته، ولن يتسنى ذلك له إلا إذا كان ملمًّا إلمامًا حسنًا بأمور كثيرة تتصل بالأدب، وفي مقدمتها قوة الحجة وسلاسة العبارة، وحسن الأسلوب، واتساق المنطق، وهذا كله متصل بالأدب اتصاله بالقانون”. 
ولأن الأدب يمنح صاحبه القدرة على التعبير، والسرد، وتصوير العواطف والهواجس والتفاصيل بأرق الأساليب، فصيغة القوانين، وتفصيلها، تحتاج رجلًا أو امرأة يجيد الأدب ليصوغ القانون صياغة حسية، تغطي كافة الجوانب، وتسد الفراغات والثغرات. 
ووجهة نظر “حسين هيكل” عن ضرورة أن يكون القانوني أديبًا لم تأتِ من فراغ، وإنما تأسست على مواقف حية، ففي أثناء وضع مشروع الدستور المصري في سنة ١٩٢٢، وبعد أن أتمَّتْ لجنة الثمانية عشرة وضع القواعد العامة، وبعد أن أتمَّتْ لجنة الثلاثين مراجعة هذه القواعد وتنقيحها والإضافة إليها والحذف منها وفصل ما هو من خصائص الدستور عما هو من خصائص قانون الانتخاب، تألفت لجنة لتحرير الدستور، والتي كان متصلًا بها، وكان من أعضائها عبد العزيز باشا فهمي، وعبد الحميد باشا بدوي، ومحمود بك أبو النصر، وتوفيق باشا دوس، والشيخ عبد العزيز البشري. 
وقد قام عبد العزيز باشا فهمي بوضع الصيغة الأولى للدستور وفصوله ومواده، ثم جعلهم يجتمعون لمراجعة النصوص من جهة تحريرها، وكانت أمامهم دساتير مختلفة مكتوبة باللغة الفرنسية. 
وبالرغم من دقة النصوص التي وضعها عبد العزيز باشا، فقد كنا وإياه – يقول هيكل – نبحث أحيانًا عن الكلمة دقيقة الأداء، فلا نعثر عليها، فنرجئها إلى غدٍ ليفكر كلٌّ منا فيها، أو في صيغة المادة وفي أسلوبها، لتكون على بساطة ألفاظها وحسن أدائها واضحةً دقيقةً لا لبس ولا إبهام فيها، ومن هنا بدأت الحاجة المُلحة إلى ضرورة الجمع بين الأدب والقانون. 
ورفض “حسين هيكل” اعتبار رجال القانون دخلاءَ في ميادين الأدب، بل هم الذين أعلوا شأنه وأبدعوا فيه ألوانًا مختلفة، فالقانون كما يراه ليس علمًا تجريبيًّا كالطب، أو كالهندسة، أو كالكيمياء تعتمد دارسته وتعتمد الحجة فيه على الأسلحة والأدوية والأدوات الهندسية أكثر مما تعتمد على النظريات، إنما هو علم نظري يعتمد على بحث الحوادث وعلى المنطق في تحليلها وترتيبها وتبويبها. 
إن تنظير “حسين هيكل” لتوضيح العلاقة بين الأدب والقانون، وضحت علاقته الوطيدة بالسرد، فقد كان له السبق عام 1914 في كتابة أول رواية عربية “زينب”، التي تعتبر العمل التأسيسي للسرد العربي. 
كتب حسين هيكل “زينب” أثناء دراسته في فرنسا، وتحولت إلى فيلم سينمائي حمل الاسم نفسه وأنتج سنة 1930، ويسجل هيكل في مقدمة الرواية أنه تردد في إعادة طبعها: “كما ترددت أول مرة”، كما لم يضع اسمه عليها في أول طبعة التي بدت كطبعة سريّة، حتى طلب المخرج المصري محمد كريم تحويلها للسينما، فقال: “لم يبق للتردد في إعادة الطبع محل، كما لم يبق سبب لمحو اسمي من الرواية، بعد أن كتبت الصحف وعرف الناس جميعا أنها لي”. 
ومن مؤلفاته أيضًا: “جان جاك روسو” (1921 – 1923)، و”تراجم مصرية وغربية” (1929)، و” ثورة الأدب” (1933)، و”حياة محمد” (1935)، و”الصديق أبو بكر” (1942)، و”الفاروق عمر” (1944)، و”في منزل الوحى”. 
ربما يرحل المبدعون بأجسادهم، لكن أفكارهم، وإبداعاتهم، وسير حياتهم الملهمة للأجيال، ستظل باقية، ومحمد حسين هيكل، القانوني والأديب، باقٍ لم يمت.
بوابة الأهرام

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *