هوفيك حبشيان
في مقابلة له أجراها في السبعينات ونُشرت أخيراً على الشبكة العنكبوتية، يعود المخرج الأميركي الكبير هاورد هوكس الى محطات عدة من مسيرته السينمائية التي بدأت في العام 1926 واختُتمت في العام 1970 قبل سبع سنوات من رحيله. بين هذين التاريخين، قدّم عملاق السينما عدداً من العناوين باتت من الكلاسيكيات وتركت أثراً واضحاً وبالغ الأهمية في نفوس كثر من السينمائيين ووجدانهم، وخصوصاً الفرنسيين منهم الذين اعتبروا هوكس سينمائياً مؤلفاً، بعدما كان يُصنَّف باعتباره من الحرفيين الصنّاع، لا من الفنانين الكاملين المتكاملين.
تاريخياً، جماعة “الموجة الجديدة”، تعاطت مع هوكس تعاطياً ذهنياً، فغاص أفرادها في تفاصيل سجلّه الذي انطوى على جانرات فيلمية عدة، من الدراما الى الكوميديا فالـ”نوار” وحتى العلم الخيالي، ولكن تقدمّ عليها جميعها الوسترن، واعتُبر هوكس واحداً من معلّميه، بالغاً في هذا المجال المرتبة نفسها التي بلغها مؤسس السينما الأميركية الحديثة جون فورد. من “سكارفايس” الذي أعاده براين دو بالما في العام 1983 الى “ريو برافو” (مع الديو الرهيب دين مارتن وجون واين) مروراً بـ”السبات العميق” (همفري بوغارت ولورين باكول) أو “فقط الملائكة لديها أجنحة”، رسم هوكس بورتريهاً بألوان حيناً زاهية وحيناً داكنة، لنصف قرن من التاريخ الأميركي.
في المقابلة المذكورة، يتكلّم هوكس بكلمات بسيطة ومحددة عن خلاصة عمله طوال سنوات نشاطه، وعن رؤيته للسينما عموماً وعلاقته بالممثلين، وعن أولئك الرفاق الذين تركوا فيه بصمات دامغة، من جورج ستيفنز وبيلي وايلدر ووليم وايلر الى ألفرد هيتشكوك. هذا كله، في وقار بعيد من التكلف، ومنصف للجميع. عن الممثلة لورين باكول التي رحلت عن عالمنا العام الماضي (أنجزا معاً فيلمين مهمين)، يقول انها كانت تمتلك وقاحة لم تفضِ يوماَ الى إغضاب الناس وإتلاف أعصابهم، وهذه كانت احدى ميزاتها التي شرّعت لها باب الشهرة. أمّا عن همفري بوغارت، شريكها في كلٍّ من “السبات العميق” و”أن يكون أو الا يكون لك”، الذي تزوجها لاحقاً، فيقول انه كان رجلاً لا يمتلك أي وسامة بل كان قبيحاً حتى، الا ان كلّ شي كان يفعله يصبح على الشاشة في منتهى الدقة والوضوح.
في نظر هوكس، بعض الناس تحبهم الكاميرا وتولد بينهما علاقة متبادلة قائمة على الكيمياء. هؤلاء شخصيات أكثر من كونهم ممثلين. ويعدد كنماذج: ماريلين مونرو وجون واين وطبعاً بوغارت. في المقابل، عندما يأتي على ذكر كاثرين هاببرن، نلمس في نبرة صوته اعجاباً كبيراً. لا شكّ ان هوكس كان يعتبر الممثلة الفائزة بثلاث جوائز “أوسكار” واحدة من عبقريات الشاشة. لا يخلو كلام هوكس من الطرافة، فيتذكر مثلاً يوم أنجز فيلمه “فتاة الجمعة” (1940) مع كاري غرانت وروزاليند راسل، واجه مشكلة مع الرقابة، فاضطر أن يترك نسخة منه في مكتبها بعدما تم تبليغه بأن من المستحيل السماح بعرضه. بيد ان الرقباء ما ان شاهدوه حتى تراجعوا عن موقفهم وسمحوا به، من شدة اعجابهم بالعمل.
يفضّل هوكس أن يكون المشهد متقناً في صناعته من أن يكون منطقياً. يلفت الى ان هناك الكثير من السينمائيين اليوم (زمن اجراء المقابلة) علّتهم أنهم يجهلون كيف يروون قصّة. لا يخفي انه تعلّم كثيراً من الأفلام التي شاهدها في حياته، فيذكر بالإسم وليم وايلر وجورج ستيفنز وفرانك كابرا وبيلي وايلدر وألفرد هيتشكوك. كلّ هؤلاء لقّنوه ما كان يحتاج اليه من ثقافة عميقة. أما فورد، جون فورد، فلا يتوانى عن اجراء مقارنة بين حسّ الدعابة لكلّ واحد منهما، فيخلص الى ان الدعابة الخاصة به مرّة في حين ان دعابة فورد محض ايرلندية، لكن الدعابتين في المحصلة توصلان الى مكان واحد. وتشكّل مقارنته بفورد مصدر اعتزاز عند هوكس. ثمة رأي يقول انهما يتصدران مخرجي الوسترن في السينما الأميركية، بيد ان فورد في رأي هوكس تجاوزه بأشواط.
يتذكر هوكس الممثل والتر برينان (1894 – 1974)، وكيف ضحك يوم التقاه للمرة الأولى. برينان من نادي الفائزين بثلاث أوسكارات (دور ثانوي). بدءاً من عمر معين، أول سؤال كان يطرحه على المخرج الذي كان يقترح عليه دوراً: “مع أو من دون؟”. يسأله المخرج: “مع أو من دون ماذا؟”. فيردّ: “تريدني أن أمثّل مع أسناني أو من دونها؟”. عندما مثّل في أحد أفلام هوكس، طلب اليه المخرح أن تكون حكاية الأسنان هذه جزءاً من القصة، فنراه ينزع طقم الأسنان ويراهن عليه في لعبة بوكر. وعندما يخسر، يعده الرابح بأن يعيد اليه أسنانه كلما احتاج الى ان يأكل.
يروي هوكس ان فورد عندما شاهد جون واين في “النهر الأحمر”، احدى روائعه، استغرب وصاح: “لم أكن أعرف ان هذا الوغد قادر على التمثيل”. فورد كان أسند اليه عدداً من الأدوار منذ العام 1928، ولكن كانت في معظم الأحيان أدواراً ثانوية جداً، وأحياناً مجرد كومبارس (ما عدا في “ستايجكوتش” 1939). في العام نفسه لاكتشافه موهبة واين، أعطاه دور القبطان كربي يورك في “فورت أباتشي”، ومنذ ذلك التاريخ انجزا معاً 14 فيلماً تُعدّ من تحف السينما الأميركية: “كانت تضع رباطاً أصفر” و”ريو غراندي” و”الباحثون”، الخ. كان واين يخضع لكلّ أوامر هوكس وفورد وتعليماتهما بلا أي نقاش (كان يسمّي فورد الـ”كوتش” او الـ”بابي”)، ولكن كان يتعامل بطريقة أخرى كلياً مع السينمائيين الشباب الذين هم أقل منه تجربةً. ظلّ فورد يعامله كمبتدئ، لكنه جعل منه نجماً سينمائياً من الصفّ الأول. ولعلّ واحداً من أكثر الممثلين الذين استمتع بالعمل معهم وايقافهم أمام الكاميرا، هو جيمس كاغني الذي “كان يفعل الأشياء على طريقته الخاصة”. في حضور قامة تمثيلية كهذه، كان من السهل الحصول على نتيجة مُرضية. يقول هوكس: “في الواقع، لا أحد يعلم ربما كمّ كان قصير القامة، ولكنه كان نموذجاً في الديناميكية.”
من جملة ما يكشفه هوكس استمتاعه الكبير جداً اثناء تأليف “ريو برافو” (1959) مع جول فورثمان ولي براكيت، ومن كثرة ما كانوا يطفحون بالأفكار، قرروا الاحتفاظ بالبعض منها لفيلم آخر. أما عن “هاي نون” (1952) لفريد زينيمان، فلا يخفي احتقاره الشديد لهذا الفيلم. يجد مثلاً ان مشهد الختام حيث يركض غاري كوبر من مكان الى آخر كـ”دجاجة مبللة” قبل أن تنقذ زوجته (غريس كيلي) حياته بطلقة رصاص، مشهد مثير للسخرية، قائلاً انه يظهر عدم تماسك الشخصية. كان هوكس يعتمد على التضاد في بناء نصوصه، ويعكس الحالات من فيلم الى آخر. ففي “ريو برافو” مثلاً، كان رفيق الشريف هو السكّير، اما في “ال دورادو” فالسكير هو الشريف نفسه.
النهار