الحرب التي لم تقع


جميلة عمايرة *

 بعد بزوغ فجر شتائي بارد عاصف، نهضت المرأة التي تسكن وحيدة وهي تشعر بعطش شديد وجفاف في الحلق. سارعت للمطبخ، أمسكت بكوب الماء البارد، شربت ثلاثة أكواب متتالية بلا توقف. 

سارت للشرفة، فتحت واجهتها الزجاجية، فركت عينيها بأصابعها، استندت للحافة وبدا نصفها العلوي في الخارج، لو كان هناك ثمة أحد في هذه اللحظة، لأقسم أنه رأى امرأة تهم بالانتحار في هذا الوقت المبكر جداً من النهار. «لكنني امرأة لم أبلغ الثلاثين بعد، أملك ابتسامة جذابة، ولديّ سبع محاولات انتحار فاشلة». شعرت بالبرودة تلسع وجهها، السماء ملبدة بالغيوم الداكنة، والضباب يفترش وجه الأرض من كل الجهات، فتفاءلت بسقوط وشيك للأمطار. 
أحست أن هطول الأمطار سيزيح عنها حملاً ثقيلاً يربض فوق روحها، إلا أن حزناً شفيفاً لا يتزحزح يحيط بجدار القلب. قلبها. فتنهدت وهي تمسح دمعة غافلتها تسح على وجنتها، تذْكر أنها كانت ساخنة! 
كان عليها، ومنذ البدايات (تدرك الآن متأخرةً كعادتها) أن تمتثل لحكمة صديقها العجوز، الذي قال لها في زمن قديم: «إياك أن تنفقي قلبك على حب رجل واحد، في يوم ما ستنهضين ولن تجديه بقربك، ولن تجدي حبه!». 
وها قد جاء هذا اليوم، تماماً كما قال لها صديقها. لو أنه هنا الآن، لذهبت لرؤيته على الفور، ربما لتهنئته على صدق نبوءته، أو للبكاء على صدره! لكنها لا تعرف عنه شيئاً، وإن كانت ترجح رحيله! إذ مرّ زمن طويل طويل على مقولته التي استحضرتها!لم تجد الرجل الذي أحبّته بقربها، ولم تجد لحبه أثراً، كأنما تبخر كضباب هذا الصباح. 
لم تسأل أحداً، ولم تجهد نفسها بالبحث عنه، أو عن حبه، فالحب كما الأشياء الأخرى يخْلُص، هكذا بانتهاء عمره أو صلاحيته للحياة، يتبخر ويتلاشى كذرات غبار متطايرة في الهواء. أو يضلّ طريقه ولا يصل. ولم تُصَب بالدهشة أيضاً، إذ إنها تدرك أنه لم يبتعد أو يذهب في الغياب، بل ذهب في الفكرة، وغاب هناك وراءها. 
والفكرة لغة، واللغة تنأى وتقترب، تغيب وتحضر، تعتم وتضيء بحيث تجعلها تبكي ألماً أو ترقص غبطة، تكتئب أو تضحك. تتشاءم أو تتفاءل. 
هي اللغة إذن. 
والغياب في اللغة ليس غياباً. 
ستقبض عليه باللغة وتُحضره. ربما لهذا لم تغضب المرأة أو تشتكي أو تندب حظَّها القليل. لا، الغياب بالفكرة ليس غياباً. أكدتْ لنفسها، ستكتبه ثانيةً كما يطيب لها، وستمنحه حياة جديدة كما تشتهيها، وستدعه بالقرب منها. لكنّ سؤالاً طلع لها كشوكة صغيرة: لماذا عليها أن تعيده حتى بالفكرة، أو باللغة؟ هو لم يكن لها في يوم من الأيام! حتى حين كان يؤكد أنه لها عندما يكونان معاً -وهو أقصى ما يمكن أن يمنحه لها- كانت تحتمي بالصمت. إذ تدرك في قرارة نفسها أنه كلام انفعالي، ينتهي بانتهاء وقتهما، ولا يمكن أن يؤخذ به أو يبنى عليه، بمعنى أنها تسمعه بأذن لتدعه يطير عبر الأذن الأخرى! لما لا يكون على هواه كما يشاء، وليس كما تريده! 
هكذا يفقد أحدنا الآخر بسبب وبلا سبب.. وبسبب وبلا سبب وبالكلمات نفسها، قد يرثي أحدنا الآخر، فينْشَف الدم بالعروق، وتبدو الأيام كئيبة متناسخة بعضها عن بعض، ليكتفي هذا الآخر بوحشته، ويستكملها دونه وهو ينزف بصمت! 
لكن الغياب يبقى غياباً، لا سيما أنه غياب غامض، لم تعرف المرأة له سبباً واضحاً أو محدداً. للمسألة جانب لا يمكن إغفاله أو إهماله أو صرف النظر عنه: جانب أخلاقي قبل أن يكون نفسياً، ثمة احتمالات عديدة لتبرير غيابه، لكنها لم تعثر على سبب يقنعها. تبدو المشكلة هنا في اللغة، أجل في اللغة. كيف ستسترده باللغة؟ «ولغتي قاصرة، عاجزة مثلي، لا حول لها ولا قوة. لغتي ذات ظلال ساكنة كظلاله هنا، أعني على مقابض الأبواب، وفناجين قهوته المرّة، «صناعة يدوية»، والشرفة الواسعة التي تنفتح على زهرة ياسمين بيضاء متفتحة، والأريكة.. الأريكة ذات المنشأ التركي بلونها الزيتوني الموشح بالأصفر، كان يفضّلها في ليال كثيرة على السرير، فيرقد حتى الصباح. والسرير بالغطاء الأزرق. لونه الذي يحبه كثيراً (يغيظني ويرفضُ لوناً آخر سواه)، في حين كنتُ أفضّل اللون الأسود تحسباً لأيام الجفاف هذه! 
أما ظلاله التي ما زالت باقية لا تمّحي، فهي تربضُ فوق أعضاء جسدي عضواً عضواً: أصابعي العشرة النحيلة، أصابع يديّ التي أعتقد أنها لا تعود لي بقدر ما تعود له. أزعم أنه هو من شكّلها ورسمها وحدد طولها وعرضها، أما باطنهما، باطن كفَّيّ، فما يزال يحمل حروف اسمه التي كثيراً ما تسبب لي حرجاً أمام الآخرين! 
أنا الآن امرأة عاجزة عن فعل أي شيء، وكل جهدي يتمحور حول اللغة. لغتي القاصرة والعاجزة، سبق أن قلت إنها مثلي؛ لا حول لها ولا قوة. فكيف سأستعيده بهذه اللغة؟ 
أما عن الروح. آه روحي، وحديث الأرواح وتآلفها أو تنافرها، فهو ليس من شأني، وليت الأمر كان بيدي (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) صدق الله العظيم. 
***
لذا قررت المرأة ودون شعور بالندم أو المرارة أو الأسى، أن تعتقد أن الحرب أخذته، والحرب بغتة، أخذته الحرب ذات ليلة بعيدة، تشبه هذه النهارات والليالي، هو وآخرين كثيرين في المدينة. 
انتهت الحرب بغتة كما بدأت، وعاد من عاد، إلا أنه لم يكن بينهم. 
انتظرت طويلاً، إلا أنه لم يعد. 
تعددت الروايات بتعدُّد رواتها: 
قيل إنه فُقد مع كثيرين بالخطّ الأمامي المتقدم في جبهة القتال، فيما روى جنود عائدون، وغبار المعركة ما يزال عالقاً بملامحهم وثيابهم، إنه استُشهد في قصف مفاجئ على رتلٍ متقدم كان هو من يقوده! 
الذين كانوا معه في خندق واحد من شهود العيان وكُتبت لهم النجاة فعادوا راضين من الغنيمة بالإياب، أقسموا أن جسده تناثر أشلاء، وإنهم قاموا بلملمة ما استطاعوا من أشلاء جسده الطاهر، ودفنها بالتراب الذي رواه بدمه كما أوصى. 
اقتنعت المرأةُ بالحكاية وصدقتها، أصبحت حكايتها، إذ إن خيوطها متماسكة ومتينة، اطمأنت للنتيجة بحيث بدأت ترويها للآخرين بثقة كبيرة، وهي تشعر بالفخر به كبطل من أبطال هذا الزمان، فاليوم هو أقرب بكثير مما كان عليه في ما مضى. 
فهو الشهيد والبطل الذي لا يبتعد مهما أوغل بالغياب. 
من يجرؤ على القول إن الشهيد يغيب أو يموت؟
* قاصة من الأردن
( الرأي الثقافي )

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *