*د. عريب محمّد عيد
فنّ التّشكيل والرّؤّية في قصيدة الشّهيد للشّاعرة د. دعاء وصفي البياتنه
استرداد الفتى
عندما يرتفع صوتُ المذيعِ مُعلنًا إعادة رسم خارطة الشّعر سيعلنُ عن ميلاد دولةٍ ساكنها الفتى الّذي ما غاب حُضوره؛ حتّى بات مئذنةً يصدحُ صوتُها للذّكر يردّده الصّدى، حدود أرضها حروفٌ خَطّ َمسارَها دمٌ يسيلُ على وجنتي الأرض الثّكلى؛ وقد بُحّ نحيبها وهي تستنجد بمن أصابتهم رِدّةٌ وانبرى جنودها زحفًا على غير هدى، هناك ستجدُ بين الرّكام المتطاير في الأزقّة حِسًّا إنسانيًّا مبدعًا يحترف إيصالَ رسالةِ أحياءٍ ضمّتهم القبور، إنّه نبض الصّحوة وقد أحيته ناطقًا فينا الشّاعرة الملهَمة دعاء البياتنه في قصيدة “الشّهيد”.
فهي تلج إلى عتبة النّصّ بمشهد يلوح كشريط أخبار يمرّ أمامنا؛ لا يفتأ يحصد أسماء شهدائنا في كلّ مكان وحين، لتربِكنا بصيغة الشّرط المستفزّ، ثمّ تمطرنا أسئلة تمسّ الوجود:
هل مات حقـًا أم سيأتي لاحقا
ليفرّطَ الرّمان ياقوتًا يلوّن حنطة في الوجه
ترسم خدّه؟!
هل مات حقّا؟؟
أم تأخّر عن مواسمِنا لينسى اسمَنا
إنّها تعيد صورة الحياة الّتي لا يُرتقى إليها إلا بالعروج، فقد حان موسم الحصاد، ونضجت أشهى القطاف، صورة كثيفة تختزل عمق الوجع الّذي يسيل طعمه مَرَارًا عند الفراق، ولا يسنده إلا إيقاع الحرف وقد غنّى سيمفونيّة الأمّ بعفويّة اللّهجة المحكيّة لتندغم في أنا الابن الصّاعد؛ فتقترب من مخاطبهاأكثر، إنّ جماليّة هذه التّقنيّة الفنيّة الّتي اتّبعتها الشّاعرة جعلت النّسيج الشّعريّ المحبوك ببراعة ملتحمًا في الذّات المتلقيّة، تشاطرها الحدث وتبعاته
فالموتُ أحمقُ
حين يسري خبْطَ عشواءٍ
يلمُّ الوَرْدْ
يا شالِ طيري عالنّعش بِدّي أنوح
خليه يبطّئ بالمشي لابكي عليه
دمعاتي كُلها بالمساجدْ زغردتْ
بدّي أرَبِّط روحي في غَفْوِةْ عينيه
تطوّع السّطور بتناغمٍ ينساق منسابًا براشقةٍ عندما تتنقل بين تعدّد الأصوات في النّصّ، وتراوح بين صيغة خبر مشؤوم و إنشاءٍ معلِنٍ الرّفض، ولا يغيبُ توظيفها لمخزون التّراث الذي يختصر أحداثًا ووقائع ومشاهدات (خبط عشواء/ بكربلاء / أحد أحد…)
ولعلّ أهمّ ما يميّز النّصّ ابتكار الصّورة وتجدّدها بعيدًا عن النّمط الممجوج أو المبتذل أو الشّائع السّائد، صور حركيّة خلّاقة واقعيّة تجلب المشهد المتخيّل بكامل تفاصيله، واقعٌ إيقاعه وتيرة الحياة المشتركة بين المبدع والمتلقي، أبطاله كلا الطّرفين، بما يجمعهما من أحوال وأماكن وأفراح وآلام، فتبدو كصيّاد ماهر تنتقي صدفاتها من المتداول بين النّاس من كلمات وأفعال (الزّغاريد، الأباتشي، السّكر الفضّيّ ، يا زريف الطّول …)
نعشٌ هناك تطوفُ حوله دمعةٌ
والأمُّ تنهضُ بالزّغاريدِ الّتي
تعلو إلى حدِّ الأباتشي، لا تخافُ البندقية
وأمّا مفاصل هذا المعمار الشّعريّ الرّصين؛ فقوامه عناية فائقة برصف الكلم المنتظم في موقعه مع مراعاة التّقديم والتّأخير، وانتقاء اللّفظ الّذي يعتنق المعنى، ويخضع للفكرة بإرادة تامّة
لا لستَ أنتَ الآنَ
لستَ الآنَ أنتْ
إنّ اللازمة الّتي تكرّرت في النّصّ “صاحَ البنفسجُ والنّدى” جاءت نقطة ارتكاز لثلاث دوائر قام النّصّ عليها: الأولى: خبر الشّهادة، والثانية: مشهد النّعش والأم وقد توسدت الحزن واتّكأت على عكاز الفرح المضرّج بدم ابنها، والثّالثة: صورة الشّهيد النّديّة وقد ارتفعت علوًا في الحيّاة والممات؛ لتمتدّ بين الأرض والسّماء.
ونجدُ حركة النّصّ تموج بالتّكرار والأفعال المستمرّة كأنّها تأكيدُ تجدّدِ الأمل بحياة أعلى وأسمى، فكلّما حاول الأعداء قلع بندقيّة نبتت مكانها أخرى، ولسان حال الشّهيد يقول:
فوق هندسة الرّصاصِ أصيرُ فنانا نبيًا طائرا
ما كان قصدي أن أكونَ كصورتي
ما كان قصدي أن أكون نبيا
وأحسبُ أن هذا العمل الإبداعيّ المتماسك لغة وسبكًا وصورة والمتدفّق إحساسًا وفكرًا وعزّة ليجلّي صوت الحياة المنبعث من كلّ مكلوم أو موجوع أو مهموم، ويصبّ التّحدي والصّبر والرّضا على الجرح حتّى يبرأ وتلتحم أطرافه رافضًا الذّلّ والخنوع، وبقدر حجم الأسى الّذي يلوك أعصابنا نحيي هذا المداد العبقريّ وصاحبته ذات الفكر الفذّ والرّؤية الخلاقة، إذ أشعلتنا نبراسًا يشق الظّلام الذي ينغمس فيه الورى.